الثلاثاء، 21 نوفمبر 2017

المطر و جيبك





لم أشعر بالنهار كما هو الآن منذ زمن طويل ..، باردُ و خافت . أسير على رؤوس 

أصابعي كي لا أصاب بالبرد المسكوب على البلاط ، أحيانًا أشعر أن تقلبات الجو 

المفاجأة ما هي إلا تذكير بطبائع الناس وحقيقة قلوبهم .

 يقولون يتغير الكل ، و يقولون أيضًا .."قلب العبد بين أصابع الرحمن يقلٌبه كيف يشاء " . لماذا لا أتغير أنا ؟ أو دعني أطرح السؤال بشكل أوضح لم  أقاوم أن يتغير في نفسي شيء و ألوذ بها بعيدًا ؟ أو أني أتغير كسائر الناس دون أن اشعر ؟  

للمطر رائحة طيبة يقول أهل البلاد الذين يعيشون في قلب المدن العتيقة ،  رائحة الأرض بعد المطر تشبه رائحة حبيبتي يقول الصبي الواقف على أعتاب الديار ، و للمطر أيضًا رائحة الموت إذ يهمل الناس الطرقات فتصير ضنكًا بدلًا  من كونها مسلكا و درب
غريب كيف يأتي الإنسان بنقيض الشيء حينما يسيء التصرف ، مثلما يتخلى المرء عن أولئك الذين أحبوه و حينما يرجع إليهم يجدهم وقد صاروا "قطارًا" مثلما تقول سنديانة . قالت وهي تشيح بوجهها عنا :نصير قطارًا مع الوقت .
 فأفسر أنا قولها : قطار يظل قادر على حملهم و السفر بهم و لكنه في الوقت ذاته يؤمن أنه قادر على الرحيل دون أن ينكسر هذه المرة . و أنه ببساطة خلق للسفر  مخلفَا وراءه البكاء و الهدير العالي في رؤوس الناس ، ولهذا بالذات كانت تقول فيروز في أغنيتها هذا الصباح
 "
يا سفر المنك سفر بكرة الناس بينسوكي "  
يسير السحاب من بلاد لأخرى  ، مثلما أكتب الآن لك دون سبب مفهوم
أحيانًا أقسم ألا أكتب لك . ولكني أعدل عن هذا في كل مرة .
تقول و أنت تضحك ..كأنك لم تبكِ قبل الآن
"  
ما عاش ولا كان الي يهزمني   "
فأرد عليك  ممازحة :أنا أهزمك كل يوم  .
بيني و بين نفسي  أعرف ايضًا أنك تفعل بي  الشيء ذاته ولكني لم أقل


يتسلل الضوء عبر الستائر المنسدلة كشيء ضعيف لأن السماء ملبدة بالغيوم. صوت المطر وهو يدق  الأبواب و النوافذ يشبه الهرب من الذاكرة . إذ أنت محبوسٌ داخلك تنهال عليك الأشياء كلها لكن الفرق أنها تنهال من الداخل لا بيت يحميك منك و أنت 
"
تتردد للأعماق.
كنت أشعر فيما مضى أن كل الذين نحبهم موجودون في أعماقنا ،   خُلقوا داخلنا يوم خُلقنا، لكننا لا نشعر بهم إلا إذ التقيناهم
 
ولهذا حينما  التقيت بك في المرة الأولى شعرت أن شيء في داخلي يوجعني  يشبه أن يشق الغصن برعم
لقد خفت و تجنبتك ثم  مضيت في طريقي مكثت لعامٍ كامل أتجنبك .
ثم هكذا ببساطة ينهار كل شيء ؟

أقول كل شيء سيمضي ، لكنك تظل.. تظل مهما مضت الأشياء

أشار علي صافي قبل أيام بأنني لست كاتبة شاطرة ولكني كاتبة ذكية .. ضحكت منه و سألته : مالفرق بين الكاتبة الشاطرة و الذكية يا فيلسوف ؟ 

فأردف :  أن الكاتبة الشاطرة تملك مقومات لغوية هائلة و الكاتبة الذكية تطوع مقوماتها البسيطة في رسم الصورة المذهلة مثلما تفعلين أنت .
ضحكت ،  لم أقل له أني فتاة تحاول محو وجهك أو حمله بحذر كي لا تجرح نفسها أو تكسره ، تحاول التخفف من نفسها على الورق ليس إلا  . 

لاتعدني  بأنني لن أذبل بالشتاء و بأن فيروز لن تصدق في أقوالها دائمًا .. أو أنها كانت ترى منامًا حزينًا  حينما غنت " يروح و ينساها و  تدبل بالشتي .. " ولاتقل  أنها لم تقصد أي شيء  . لا تقل أننا يوما ما سنسير في الطريق معا و سأدس يدي الباردتين في جيبك 
عدني  أنه و إن لم يحدث أي شيء أن تظل مثلما أنت تحب المطر و تفرح به كطفل صغير لا تعطه أبعاد ومعانيه  فيخدشك بل  تحبه وتفرح به و لا تكترث للتفاصيل كثيرًا ولا تحاول أن تفهم أسباب الأشياء بإصرار مثلما أفعل أنا . وتقول بصوت عال
"
شوية المطرة دول حلوين أوووي يارب "
 
فيصل صوتك للسماء و روحك صافية يغسلها البكاء و يمنحها سرورها المطر .. ويدفع السحاب للسير إلى الضفة الأخرى لنقول  حقيقة لا مجاز سقانا الله معًا .







الجمعة، 3 نوفمبر 2017

أحلام تشرين

تقف مريم على أطراف أصابعها وهي تبحث عن مطربان البهار هذا أو ذاك في المطبخ . طالما سخرت من قصر قامتها ولكني سرًا بيني و بين نفسي  كنت أحب كيف أستطيع أن أشعر بنبض قلبها حينما أميل برأسي فأصل لموضع القلب وهي تقص لي قصة جديدة في كل ليلة. لا أبوح لها بهذا ، بل أسخر منها و أعود إلى مكاني بعد أن تفرغ من الحكاية .
كنت لم أزل في السادسة من عمري  ، صبي صغير يتعرف على الأشياء عبر مريم رغم أنها تكبره بقليل .
 يعرف الأصدقاء أني  سيء الذاكرة . و لا أستطيع اكمال جملة واحدة سليمة حينما أتحدث إلى  فتاة . لكن مريم ليست كالأخريات كنت أشعر بها و هي تُعجن بقلبي ، ييبس القلب أحيانًا  فأبحث عنها لتفتته ثم تنثره صباحًا للطير  فيخالطني تراب الأرض ، ثم تجمعني الطيور في حواصلها و تطلقني بدايات للغناء أول الضحى .
. مريم  تصير جزء من هذا الدم الذي يجري في داخلي أليست الروح من تدفعه للجريان مالفرق إذًا ؟ 


(2) 

تقول جدتي أن الأحلام تتلبس بنا أول تشرين الثاني  لأّنّه فصل الحرث ، يقلب الأهالي الأراضي فتتقلب معها أرواحهم و تزورهم الأحلام و كأنما المحصول ينبت في رأس صاحب الأرض قبل أن يقبل موعده
أقول لها : كلا يا جدتي أنه سعي الإنسان نحو مقصده يقض مضجعه ، و يجدد سريرته ليس إلا. ولهذا يجد كل شيء في المنام و كأنما تولد الاشياء من جديد . لكنها تصر و تستند إلى أن قاموس اللغة العربية يشير للبقاع التي يغسلها ماء المطر بالتعبير التالي " مضاجع المطر" أي مساقطه . ولهذا بعد الحرث بالذات و في بدايات المطر تثور الأحلام علينا . ألا تبدو لك الصورة الآن كاملة يا ولد ؟ 
فأسكت. معها حق إن كان المطر يضجع و نحن كذلك فتصحو الأرض و تحدث أصحابها بطريقتها

(3 ) 

حينما التقينا في المرة الأخيرة كانت تضحك مثلما عهدتها تزم شفتيها  . قلت لها أن عقد اللؤلؤ في فمك يجب أن يبصره الجميع اطلقي ضحكة كاملة . لا تزمي شفتيك  و أنت تضحكين . حسنًا أنا لم أقل شيء

(4) 

أحيانًا و دون أسباب مفهومة أو واضحة أصير خجولًا أكثر من اللازم فأعجز عن النظر مباشرة في عينيّ من يحدثني أيًا كان .
 أهو الخجل حقا؟ 
الارتياب ؟ أم انه الخوف من أن يفهمك الناس لأن " العيون نافذة الروح" ولأني أبصر مريم كل يوم و هي تشرع نوافذ الروح و ترسلها حرة لتجوب الأفق ثم معدمة و منهكة آخر الليل كأحلام تشرين

(4 ) 
 قبل أيام طرحت الشجرة خيراتها .
" يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، نور على نور ، يهدي الله لنوره من يشاء" . 

ترفض جدتي أن تقطف الزيتون  إلا بيديها لا تستخدم أي أداة أخرى ، لا حواشة ولا غيرها. الشجر يحس يجب ألا نقسو عليه فيقسو علينا ويحرمنا بركاته  . يغني الكل في موسم القطاف
" على دلعونا و على دلعونا زيتون بلادي أحسن ما يكونا على دلعونا و على دلعونا و يا ربي بارك شجر الزيتونا "  
تتسابق العجائزو  الصبايا  على تسلق  الشجر  و يمددن الأيادي مثلما كانت تمد الطيور مناقيرها إلي حينما تفتتني مريم و تنثرني  أول الضحى . تتفوق الختيارة على الصبية ولا عجب في هذا لأن هؤلاء يمتد جذرهن أعمق مما يمتد جذر الأخريات
يبدو المشهد من أعلى التلة  والأهالي يعتلون أشجارهم و كأن كل فلاح ينبثق من شجرته لتوه ، و حركة يديه وهو يجمع الزيتون  فيقطفه من الغصن القريب أو البعيد تذكرني بحركة الجنين في رحم أمه يضرب كل ناحية فيها و حينما يثقل ، أو تثقل الأحمال بالزيتون فجأة يسقط من الشجرة إنسان كامل . قوي و منتصب لا ضعيف ولا لين لكنه حديث الولادة
وحينما يفرغون من القطاف ،يقلمون الشجر ثم يحرقون الأغصان و يتركونها في الأرض محلها سمادًا للشجر . يبدو المشهد هذه المرة غريب و مروعًا .  يذكرني بالقيامة أو بالبداية التي لا تكتشف في نهاية المطاف أنك كنت مشدود و مشدوه فمخدوع بها وحسب . يذكرني بوجه مريم العذب . و الحقيقة و بالإنسان الذي تحترق دواخله ربما ليظل واقفًا.
(5 ) 

لا أصحو مبكرًا . لكن مريم تفعل . تحب الفجر،  تسبقه وتقف بباب الدار قبل أن يعلو صوت الآذان و ترقبه والضوء يشقه يشتته ثم يبيده  معًا.
 تقول : " يشبه الفجر نظرة حنان لا نهائي " .
لكني اليوم و ستأتي أول عصرة من زيتون هذا العام سأسبق مريم و الفجر أيضًا . قال مهند لنا ذات مرة حينما كان كل واحد منا يتحدث عما يرغب بالوصول إليه . أنه لا يريد شيئًا . يريد فقط أن يظل زيت الزيتون   قادر على لسع حلقه أي أن يظل و كأنه عُصر لتوه . ها هو ذا يلسع فينا الحلق و القلب ..فهلا أقبلت ؟ 

(6 ) 
أعتقد أن الكتابة فعل مجنون لأنه يجعلك تعيش حياة الآخرين . و تصفها و تحدق في

الأطراف التي قضمها أصحابها . أو ربما أكتب لأني حدقت ولا أحدق لأني أكتب . ما 

هذا الهراء الذي أقوله الآن ؟ في كل مره أكتب فيها أشعر بالتيه . في كل مرة لا أكتب  أشعر وكأن جبل أحد مخبوء في صدري .

(7)
 و الأهالي يشعلون النار في الأغصان قالت لي مريم  أنها رأت أننا . أنا وهي نقف على ارض مستويه ثم فجأة تتزلزل الأرض من تحتنا فأسقط أنا و تنجو هي  و حينما تحاول نجدتي تجد أني تحولت لشجرة .
 لقد انفجرت ضحكًا  : - شجرة يا مريم ؟ 
ولك شجرة

 - لماذا تضحك؟
 أجل شجرة و لقد وقعت في حيرة كبيرة وقتها ولم أعرف مالذي سأفعله . إن الشجرة الوحيدة التي تمنيت لها ان تصبح إنسان هي  الشجرة التي صرتها أنت
أتعرف مريم ألا اسم لي ؟  يبدو أني قلبت في الأرض كثيرًا هذا العام فقلت لمريم في المنام ما لا أقوله لها . 


 كانت النار المشتعلة قد هدأت و الدخان في طريقه للتلاشي و مريم تبتسم دون أن تزم شفتيها هذه المرة