الجمعة، 3 نوفمبر 2017

أحلام تشرين

تقف مريم على أطراف أصابعها وهي تبحث عن مطربان البهار هذا أو ذاك في المطبخ . طالما سخرت من قصر قامتها ولكني سرًا بيني و بين نفسي  كنت أحب كيف أستطيع أن أشعر بنبض قلبها حينما أميل برأسي فأصل لموضع القلب وهي تقص لي قصة جديدة في كل ليلة. لا أبوح لها بهذا ، بل أسخر منها و أعود إلى مكاني بعد أن تفرغ من الحكاية .
كنت لم أزل في السادسة من عمري  ، صبي صغير يتعرف على الأشياء عبر مريم رغم أنها تكبره بقليل .
 يعرف الأصدقاء أني  سيء الذاكرة . و لا أستطيع اكمال جملة واحدة سليمة حينما أتحدث إلى  فتاة . لكن مريم ليست كالأخريات كنت أشعر بها و هي تُعجن بقلبي ، ييبس القلب أحيانًا  فأبحث عنها لتفتته ثم تنثره صباحًا للطير  فيخالطني تراب الأرض ، ثم تجمعني الطيور في حواصلها و تطلقني بدايات للغناء أول الضحى .
. مريم  تصير جزء من هذا الدم الذي يجري في داخلي أليست الروح من تدفعه للجريان مالفرق إذًا ؟ 


(2) 

تقول جدتي أن الأحلام تتلبس بنا أول تشرين الثاني  لأّنّه فصل الحرث ، يقلب الأهالي الأراضي فتتقلب معها أرواحهم و تزورهم الأحلام و كأنما المحصول ينبت في رأس صاحب الأرض قبل أن يقبل موعده
أقول لها : كلا يا جدتي أنه سعي الإنسان نحو مقصده يقض مضجعه ، و يجدد سريرته ليس إلا. ولهذا يجد كل شيء في المنام و كأنما تولد الاشياء من جديد . لكنها تصر و تستند إلى أن قاموس اللغة العربية يشير للبقاع التي يغسلها ماء المطر بالتعبير التالي " مضاجع المطر" أي مساقطه . ولهذا بعد الحرث بالذات و في بدايات المطر تثور الأحلام علينا . ألا تبدو لك الصورة الآن كاملة يا ولد ؟ 
فأسكت. معها حق إن كان المطر يضجع و نحن كذلك فتصحو الأرض و تحدث أصحابها بطريقتها

(3 ) 

حينما التقينا في المرة الأخيرة كانت تضحك مثلما عهدتها تزم شفتيها  . قلت لها أن عقد اللؤلؤ في فمك يجب أن يبصره الجميع اطلقي ضحكة كاملة . لا تزمي شفتيك  و أنت تضحكين . حسنًا أنا لم أقل شيء

(4) 

أحيانًا و دون أسباب مفهومة أو واضحة أصير خجولًا أكثر من اللازم فأعجز عن النظر مباشرة في عينيّ من يحدثني أيًا كان .
 أهو الخجل حقا؟ 
الارتياب ؟ أم انه الخوف من أن يفهمك الناس لأن " العيون نافذة الروح" ولأني أبصر مريم كل يوم و هي تشرع نوافذ الروح و ترسلها حرة لتجوب الأفق ثم معدمة و منهكة آخر الليل كأحلام تشرين

(4 ) 
 قبل أيام طرحت الشجرة خيراتها .
" يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، نور على نور ، يهدي الله لنوره من يشاء" . 

ترفض جدتي أن تقطف الزيتون  إلا بيديها لا تستخدم أي أداة أخرى ، لا حواشة ولا غيرها. الشجر يحس يجب ألا نقسو عليه فيقسو علينا ويحرمنا بركاته  . يغني الكل في موسم القطاف
" على دلعونا و على دلعونا زيتون بلادي أحسن ما يكونا على دلعونا و على دلعونا و يا ربي بارك شجر الزيتونا "  
تتسابق العجائزو  الصبايا  على تسلق  الشجر  و يمددن الأيادي مثلما كانت تمد الطيور مناقيرها إلي حينما تفتتني مريم و تنثرني  أول الضحى . تتفوق الختيارة على الصبية ولا عجب في هذا لأن هؤلاء يمتد جذرهن أعمق مما يمتد جذر الأخريات
يبدو المشهد من أعلى التلة  والأهالي يعتلون أشجارهم و كأن كل فلاح ينبثق من شجرته لتوه ، و حركة يديه وهو يجمع الزيتون  فيقطفه من الغصن القريب أو البعيد تذكرني بحركة الجنين في رحم أمه يضرب كل ناحية فيها و حينما يثقل ، أو تثقل الأحمال بالزيتون فجأة يسقط من الشجرة إنسان كامل . قوي و منتصب لا ضعيف ولا لين لكنه حديث الولادة
وحينما يفرغون من القطاف ،يقلمون الشجر ثم يحرقون الأغصان و يتركونها في الأرض محلها سمادًا للشجر . يبدو المشهد هذه المرة غريب و مروعًا .  يذكرني بالقيامة أو بالبداية التي لا تكتشف في نهاية المطاف أنك كنت مشدود و مشدوه فمخدوع بها وحسب . يذكرني بوجه مريم العذب . و الحقيقة و بالإنسان الذي تحترق دواخله ربما ليظل واقفًا.
(5 ) 

لا أصحو مبكرًا . لكن مريم تفعل . تحب الفجر،  تسبقه وتقف بباب الدار قبل أن يعلو صوت الآذان و ترقبه والضوء يشقه يشتته ثم يبيده  معًا.
 تقول : " يشبه الفجر نظرة حنان لا نهائي " .
لكني اليوم و ستأتي أول عصرة من زيتون هذا العام سأسبق مريم و الفجر أيضًا . قال مهند لنا ذات مرة حينما كان كل واحد منا يتحدث عما يرغب بالوصول إليه . أنه لا يريد شيئًا . يريد فقط أن يظل زيت الزيتون   قادر على لسع حلقه أي أن يظل و كأنه عُصر لتوه . ها هو ذا يلسع فينا الحلق و القلب ..فهلا أقبلت ؟ 

(6 ) 
أعتقد أن الكتابة فعل مجنون لأنه يجعلك تعيش حياة الآخرين . و تصفها و تحدق في

الأطراف التي قضمها أصحابها . أو ربما أكتب لأني حدقت ولا أحدق لأني أكتب . ما 

هذا الهراء الذي أقوله الآن ؟ في كل مره أكتب فيها أشعر بالتيه . في كل مرة لا أكتب  أشعر وكأن جبل أحد مخبوء في صدري .

(7)
 و الأهالي يشعلون النار في الأغصان قالت لي مريم  أنها رأت أننا . أنا وهي نقف على ارض مستويه ثم فجأة تتزلزل الأرض من تحتنا فأسقط أنا و تنجو هي  و حينما تحاول نجدتي تجد أني تحولت لشجرة .
 لقد انفجرت ضحكًا  : - شجرة يا مريم ؟ 
ولك شجرة

 - لماذا تضحك؟
 أجل شجرة و لقد وقعت في حيرة كبيرة وقتها ولم أعرف مالذي سأفعله . إن الشجرة الوحيدة التي تمنيت لها ان تصبح إنسان هي  الشجرة التي صرتها أنت
أتعرف مريم ألا اسم لي ؟  يبدو أني قلبت في الأرض كثيرًا هذا العام فقلت لمريم في المنام ما لا أقوله لها . 


 كانت النار المشتعلة قد هدأت و الدخان في طريقه للتلاشي و مريم تبتسم دون أن تزم شفتيها هذه المرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق