السبت، 7 أبريل 2018

على مفترق الطريق السريع



تحدثت إلي و شعرها ينساب على كتفيها تجلس مستقيمة و تلف الساق بالساق ، ثم تقول 
" حكا كتير شغلات والله " كتير حكي ، كان يحلم بي ، يرسم خيالي على الطرقات يكتب لأني موجودة  و يكمل السير على أملِ أن أقبل به في حياتي . تحدثت و عينيها تغمضان برفق وكأنها تخبىء فيهما شيء تخاف أن يقع تميل برأسها لليمين و تبتسم ببطء فجأةً لا كشيء ثقيل بل كشيء تتدفق فيه الحياة و اليقظة لتوها مثلما يفرد طفل يديه الصغيرتين وكما تميل شجرة الياسمين بروية و هدوء في صباحات الشتاء وكما يبكي مسن يمنع البكاء فيغالبه وينكشف . قلتُ : لم أركِ تتحدثين عن أحدِ بهذه الطريقة طوال حياتي إلا مرة واحدة و أنتِ تتحدثين عن والدك قرب نافذة الصف ، ذات الحياة تدفق بروية كي لا تجرفك وتقتلك . كان المشهد يترك في نفسي ذات الأثر الذي يتركه مشهد لوردة  تتفتّح ببطىء أو  لفراشة تفرد جناحيها على مهل شديد  .
فكرّت  بعدما طلبت مني البنت أن أكتب عنها في الوقت الذي تحدثت هي فيه ، قلت كيف أبدو حينما أتحدث أنا عنك ؟ 
وجهك ، وجه  الطفل الواقفُ على مفترق الطريق السريع  وكأنه دليل للمسافرين و السفر  و الضوء يتخلل الذقن و العينين بشدة أتراه يشي بي ؟

وجه مبلل

 تملأ الجروح فمي من الداخل ، لأني حينما أنام و دون أن أشعر بنفسي أعض على لثتي. تقول أمي أن أسناني من الداخل يلزمها تقويم ما لكي أتوقف عن عض لثتي ، آه صحيح إنها لا تراه كذلك بل ترى أن خروج الأسنان عن مسارها يضغط على اللثة و هذا كل ما في الأمر . منذ مدة طويلة و أنا أعاني من هذا الأمر إلا أنني لم أتحدث عنه إلا قبل بضعة أيام ، منذ كنت في المرحلة الإعدادية ، عشر سنوات و أنا أطبق شفتاي على فم أشبه بشيء مشرحٍ من الداخل ، أعرف أن الكلمات التي أبتلعها و أطبق شفتاي عليها تحاول أن تهزمني ليلًا لكني أحكم إغلاق فمي  فتأكل شيء منه .حتى أني في إحدى المرات أخذت تشكو إليّ إحدى البنات من كونها تعض على لثتها وهي نائمة قفلتً لها أنه الكلام المخبوء في داخلك يصير جراحًا .
أشُعر بصعوبة البوح حتى وأنا أحاول أن أكتُب الآن . منذ ثلاثة أيام و أنا عاجزة عن البكاء . أحيانًا حينما أسير لمدة طويلة أشعر بالدموع تبلل وجهي وحدها دون أن أستدعيها و كأن الإنسان لا يستطيع أن يحتمل أن يوجعه جسده و قلبه في آن فيحن القلب على الجسد و يغسله البكاء وفي كل مرة يحدث فيها هذا أتذكر فصلًا يدعى " شعبان مكاوي و أحمد الشحات في  سيرة رضوى عاشور الذاتية حيث تصف فيها شابًا في أول الثلاثينيات يُصاب بمرض الكبد ، وجهه شاحب ، والمرض يلتهم جسده الهزيل في كل يوم لكنه يعمل و يدرس ويترجم في الوقت ذاته و أحيانًا حينما لا يمتلك مالًا كافيًا لركوب "المواصلة " يسير على قدمية ثم تبلل الدموع وجهه و هو يسير في الطرقات، كلا إن المشقة ليست في قلوبنا و حسب بل في الطريق.
أعتقد أن الكتابة هي أمثل ما يمكن أن يفعله المرء كي لا يُنسى ، و أنا مؤمنة أيضًا بأن الكتابة تقدر على مالا يقدر عليه الرسم و إلا لبعث الله للبشرية لوحة كرسالة آخيرة لكنها الكلمات ، الكلمات حيث حزن محمد عليه الصلاة و السلام وحيث قال الله " ولا يحزنك قولهم " ، وحيث سرت رهبة النسيان في صدر النبي فقال له ربه " لا تحرك به لسانك لتعجل به ، إنا علينا جمعه و قرآنه " و الكلمات حيث أحكي لبنتٍ لا أعرفها قبل أن تنام حكاية لتشفى من الخذلان  فأغفو داخلها و حينما أغيب أمر عبر صدرها لأني لم أحكِ اليوم ولأن حكاية ربما تزيح عنها الكثير من الوجع فتبعث إلي برسالة تقول فيها  " أين ذهبت الحكايا و أحيانًا تقول :" وحشتيني "

مرة أخرى : تفتقد الفتاة الطمأنينة التي تسري داخلها بفعل الحكايا لا أنا وفي الوقت ذاته لا تعرف أن نفس هذه الفتاة التي تبعث إليها بالقصص تطبق فمها المجرّح بالكلمات دون أن يحكي لها أحد أي شيء  .

الاثنين، 26 فبراير 2018

زهرَت البنت

لم  أميز وقتها إن كنت أحلم أم أن صوت مايا يجيء من أرض حجرتنا ، شعرتُ فجأة أني أختنق لم يكن منامًا كانت مايا تبكي و تقول أنها لا تستطيع الحراك ، إلا أنها تشد على جوانب السرير الحديدي الأسود بيديها الصغيرتين ، و الدماء تملأ بنطالها ، وأمي تسوقها أصواتنا في منتصف الليل إلينا  تقف في حجرتنا و تمد يدها لمايا وتقول : مش قادرة تتحركي ؟
تهز مايا برأسها و تبكي .
يقولون : زهرّت البنت ، صارت أمًا للحياة الآن ، بضعة أشهر و يتشكل جسدها ، ينفر الصدر ، تٌنحت الكمنجة عند الخاصرة و في الوقت ذاته تشعر أنها تود أن تخبىء كل هذا ، لا تحبه ، لا تريد أن يبصره الكل ، تختار الواسع من الثياب ثم مع الوقت تعتاد الذي صارت عليه وحينما تكبر أكثر تحبه لا لكونها كيف تبدو بل لأنها تفهم الآن جيدًا كيف صارت مهدًا للحياة .
لم تزل مايا صغيرة في العاشرة من عمرها و حسب ، لقد بكيت معها ليلة البارحة حتى أني لم أستطع أن أنام حتى الرابعة فجرًا . تذكرت نفسي و أنا أقف و أحمل ثيابي المبللة بالدماء للمرة الأولى و أبكي .
يا الله لم تزل في العاشرة فقط تقول أمي ، و يصفر لونها  ، تشد مايا إليها و تحملها و تسير بها  لتبدل ملابسها و تهدىئها ثم تجلب  غطاء كبير  ، تطفىء الأضواء ثم  تنام قربها و تلف الغطاء عليهما معًا
في الظلام  ومع انعكاس الأضواء الخافتة من  النافذة ليللاً بدت أمي وكأنها أعادت مايا لرحمها من جديد ، بدت وكأنها تتحسس رحمها و تبكي و هي تروح و تجيء بيديها على مايا من فوق الغطاء.
و البنت تبكي لا بد أن المعول يضرب ظهرها ، بطنها ، جنبها و فخذيها الآن
أحيانًا أفكر .أقول لم كل هذا الوجع يا الله !
وما ألبث إلا أن أصل لحقيقة أن كل الذي حدث ما كان إلا انهيار الرحم بسبب الاحتمال ، كان احتمالًا أن تخلق في جوف الفتاة  روح أخرى  ، أن يتشكل القلب وينبض فيها قلبين إلا أن هذا لم يحدث ، فكيف يعبر الجسد عن هوسه بالاحتمالات  ؟
.ألسنا نخاف أن يحدث شيء أو ألا يحدث ، أن نتأخر صباحًا ، أن تفوتنا محاضرة ما ، أن نخسر المقعد قرب النافذة في الحافلة صباحًا ؟
فكيف بالجسد و هو مهوس باحتمال أن تسكنه روح آخرى ؟
سيضرب المعول و سيضرب حتى يفتت نفسه ثم يبنيها من جديد ، يشبه هذا الحب و الهجران و الموت و الولادة و يشبهنا نحن ثلاث فتيات في العشرين من عمرهن يتحسسن أرحامهن في الظلام و يستعدن اللحظة المربكة ذاتها ، و أمي  تفرد روحها وتمد غطاءها كخيمة على استعداد تام لأن تعيدنا جميعًا إن ضاقت بنا الحياة لرحمها ، وتظل تروح و تجيء بيديها .