الجمعة، 1 ديسمبر 2017

متلازمة الأشجار

"  متلازمة الأشجار " 



أنت تقف وحدك في وجه كل شيء رغم أنك تملك أصدقاء طيبين يمسحون دموعك و وجهك المبلل بالحزن و الفقد بأكمامهم و أصابعهم الرفيعة، التي  "كأنما خلقت لتنقية الأحلام . "
تقف في وجه الذاكرة و الوقت وحدك ، تلغي الذاكرة الوقت. تفقده قوته ، يتضاءل أمامها بعدما كان نسرًا جارحًا ، يتساقط جناحيه و يصبح عاريًا وتظل هي . 


وقفت على رأس الجبل أنا وماري  ليضيق نفسي ثم أعود لمنطقة  أقل ارتفاعًا فيتسع ، انتقال خفيف و وهمي من الضيق للسعة ليعيق الذاكرة أيضًا . صادفت هناك فتاة تحمل رواية ضخمة ، لمحت في تقديمها  الكلمات التالية : " فتاة الورق التي تخرج من قلب الكتاب و تصير في حياة الكاتب " ، كانت ماري تقرأ أيضًا ثم ضحكت و قالت لي : فتاة الورق مثلك ! 
غضبت .. ، 
أنا لست فتاة الورق . قلت لها : أنا الفتاة الشجرة
 . 
يبوح الناس بأشيائهم لك حينما يجدون فيك القدرة على تصورها ، و أحيانًا لأن خيالك يذهلهم ، قلت لهدى أن الشجر العاري على الطريق يشبه الجثث المصلوبة ، وأن المقطوع منها يشبه أن يتركنا أحد ، ينتهي كل شيء " الضي و الفي " و يظل آخر الجذع ، و الجذور تمسك في أعماقك كمخلب . و أحيان أخرى  يصير آخر الجذع مقعدًا .
يشبه الذكرى التي تمر فنستريح إليها رغم أنها مدعاة للبكاء .    

   بصي ، أنا مش عايزه أقولك كلامك بيعمل فيا إيه بس ربنا موجود * تقول الفتاة التي أصرت أن تعرفني لأني فلسطينية و لأن الوعي الجمعي لدينا سيضيف لها شيء ، "لأن "الألم في حروفك بيخترقني و انا بقدر ده و بحس بده   

 يشد الألم الآخرين إلينا  حقًا ، لا محض مصادفة ، ولا أقصد بهذا أن الألم بحد ذاته ميزه ، لكنه يصقل النفس ، يهذبها ، يدنيها من الله يعلمها معنى أن يكتب جبران خليل جبران " زاهدا فيما سيأتي ناسيا ما قد مضى " . 

 انتظر أن يفتح لي أحدهم باب البناية و أمي برفقتي .كعادتي أنسى المفاتيح المهم أن أخرج للعالم ليس المهم كيف سأرجع للديار .جلست أمي على أحد الجذوع المقطوعة و المغروسة في الرصيف . شعرت أنها تؤكد على الفكرة و كأنها تقول أني على صواب

بعد يومين فقط ، قالت ونحن نسير  : جذوع الشجر التي لم يستطع الإنسان اقتلاعها بعدما قطع الشجر تشبه أناس يمدون أياديهم ، واقفين في أماكنهم ، عاجزين عن الحراك نادمين في الوقت ذاته . ضحكت، أعتقد أني الآن على الأقل أفهم سبب إصابتي بمتلازمة الأشجار . يقولون
" إقلب الجرة على تمها تطلع البنت لأمها

أنا كأمي حينما نفكر ، لكن ليس حينما نحب ، تتفوق الأمهات علينا ، إنهن السبيل الوحيد و الأبدي نحو الله ، صوب  الحقيقة و ذواتنا و اتساع السماء


أهرب من البكاء ، و" مشارف الاكتئاب " بالكتابة  مثلما تقول رضوى عاشور .
أقف عند التعبير طويلًا لم تقل رضوى انها اكتئبت ، لم تجزم بوقوع الشيء .  قالت: مشارف أي قد يحدث و قد تتغلب عليه قبل أن يقع أصلًا . كيف تجزم به وهي التي " تكره تيئيس الناس " ، تكره أن يصاب الإنسان بالحزن فيعممه و يسقطه على الجميع

أعرف أن الإنسان  يهرب من التعب للشجر و أعرف أيضًا أن الورق جاء من الشجر نفسه و أنه في الحالتين منحنا هروبنا من تعبنا .
فتاة الورق أو الفتاة الشجرة كليهما كالآخر فلماذا غضبت ؟ 
لأني أعرف في أعماقي أني أكتب عوضًا عن شيء آخر . لا لفعل الكتابة بذاته ربما

لم أفلت يدك لكني لم أرجع إليك . أنا أسير وحدي  دائمًا .  

السير الطويل يقوم الظهر تقول السيدة وفاء . ويصلح ما اعوج من فقرات عمودك يا بنت ، يسند القامة و تصيرين امرأة بأكتاف قائمة ينسدل عليها الثوب بجمال و هدوء  . 
تربط والدتي السيدة وفاء  بين  المرأة وكل الأشياء بطريقة فريدة من نوعها 
.

أخذني حديثها هذا لمشهد قديم في بيتنا حينما سكنا مكة المكرمة . لم أنسه . تقف ، و  
تستمع لأغنية قديمة في الحجرة المعتمة إلا من ضوء خفيف يجيء من خارجها . تقف في منتصف الحجرة وحيدة و ترقص و الثوب الأسود المقلم على جنابته بالأبيض يتسع و يضيق يروح معها و يجيء و أنا أقف إلى الحائط لا تنتبه لوجودي لفرط ما فعلت بها الأغنية . ولكني أنتبه ، أتذكر جيدًا، أستحضر المشهد بدقه و الضوء كلما عادت لموضعها يشتد و حينما تبتعد تسود العتمة ولو أني استطيع أن أرسم لرسمت المشهد.
لم أقل لها أني تذكرت كيف  كان ينسدل الثوب على أكتافها بجمال و صخب.وصفها السابق للسير كان يشبه تصوري عن الوحدة ،  لا طرقات المشي يصنع الطرقات  هكذا 
يقولون ولا غياب الذاكرة تجلب الآخرين أقول . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق