الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

صندوق موسيقى

(1) 


لا أذكر متى آخر مرة استطعت فيها تحريك يداي و أطراف أصابعي منذ زمن طويل أقف قرب النافذة على قدم واحدة أميل برأسي وأمد ذراع واحدة و كلما جاء الليل أستمرُ في الدوارن وصوت الموسيقى  المنبعث من أسفل المكان يشبه أن ينبش أحدًا أحزان الآخرين ثم يبكي عليها لأنها تنكأ شيء في نفسه . أكمام الدانيتل جميلة و لكنها ضيقة وتترك في الجلد طرقات و جسور ، رباط الحذاء الممتد من الكعب إلى الساق يتسبب بخدرِ يصل للعصب .أتوقف عن الاحساس بقدماي .
أطير ؟ أم أقف ؟  لا يهم . 


(2) 
توقفي عن النبش في حياة الآخرين تقول رنا .أنا لا أنبش ، يسوق الله الحكايا إلينا وحدها،  ولا أحكي حتى .أنا وجه ُ بلا شفتان لكني أملك صوت ينبعث  كلما لزم الأمر من الداخل .أتسمعني الآن ؟ أتسمع مثلاً حينما أهدهد أحلامنا الصغيرة أو أبيد الكبيرة لأنها ستبتلعنا بعد قليل ، أعاركها ، و أنتصر عليها حينما تموت لأتزن و لأظل قربك و دون ترتيب مسبق أجدني أربي عبر الأيام اتجاهك شيء يشبه إحساس الأم بوخز جنينها . ثم الأم اتجاه وليدها ، ثم الأم تربي و تشتاق و تغفر الأخطاء كلها دون أن ترغب بشيء في المقابل ، إنها تريد أن يكبر الصبي ويشتد عوده ، تعطيه من عظمها ولحمها و دمها و صوتها و تزرع ليله بالأغنيات ثم ترقبه وهو يشق طريقه في الحياة و يمضي .
 " ضحكه ينزل عليها كالبكاء " و بكاءه يفعل الشيء ذاته !


(3)

إلى الصبية التي تبحث عن حبيبها فيما أكتب ، حينما أقول لك أنه ليس هنا تظلين رغم أني لم أكذب تصدقين نفسك .سأهمس في قلبك اليوم قبل أن تغفي و أقول : " هيه يا صبية اسكيه شربة ميه "  ، يا وجهك عذب وحلو و يا قلبك أقحوان و يا شريانك الحقيقة . 


(4) 

لا يعرف كيف يغفو دون أن يتوزع الصخب حوله في المكان ، يحتفظ بالأغنيات القديمة ، مسلسل ألف ليلة وليلة ، أو " هي و هو " وأي شيء قديم  يحمل عبق الطفولة و وجه البنت التي حينما صادفها على الطريق بعد أن شدت أمها على جدائلها صباحًا الشرائط البيضاء أحس بالخفقان في صدره يعلو رغم أنه لم يكن إلا طفلًا " ممحوة عن وجهه العذابات " . 
وُلدا في نفس اليوم ، ولهذا كان يخيل إليه في كل عيد ميلاد أن كل واحد منهم يحتفل بالآخر لا بميلاده شخصيًا . 
يلتهمنا الجمال أليس كذلك ؟ أحس أننا ندفع ثمنه أرواحنا . 
لكني أصدق في الوقت ذاته أن الأشياء الجميلة  لا يمكن حصرها بزمن معين ، لا يمكن أن نقول أن هذا شيء جميل لكنه تأخر ، لأن الجمال الحقيقي هو الذي يفرض وجوده ، يعجن قلبك من جديد بالحب و الأمنيات ، يرجعك طفلًا يبدد سطوة الذاكرة ، و يحشو الشرخ في الروح بالتراب ، لم العجب ؟! أجل بالتراب لتصير قادرة على أن تخضّر بسواعد الإنسان نفسه. 
ها هو صوت سعاد حسني يعلو مجددًا وهي تغني " هوّ و هيّ " و تتمايل بجسدها النحيل و وجهها ينزلق في الذاكرة كما يسير الندى على  حبات الورد . 
فيرجع الرجل طفلًا  .. ،   سينام بعد قليل " نومة غزلان في البرية"  هكذا تقول الأغنية الفلسطينية .
حينما ينام الغزال يضم نفسه إلى نفسه ، و يميل برأسه ، ويبدو مطمئنًا للحد الذي نطمئن نحن فيه حينما ننظر إليه ، و كأن هنالك من يضمه لصدره رغم أنه في قلب الغاب المتوحش . 
مالفرق بين العالم  و الغاب ، بين الأم التي تهدهد ابنها و بيني ، بينك و بين الطفل الغافي ، بيننا و بين الأغنية ؟ 
غدًا حينما تتناول عودك و تروح وتجيء عليه بقلبك قبل يدك ستجد جواب السؤال ! 

(5) 

لا أمل من الوقوف في الصندوق المركون على المنضدة قرب النافذة ،  لا أكلّ أو أتعب ، و أرقبك من بعيد و أنت تجر أذيال تعبك الثقيل تدير مفتح الصندوق  ثم تنظر إلي  وأنا أتوسطه و صوت الموسيقى يعلو ،  سعاد حسني تسير بثوبها الأسود و تحمل بيدها السلال و تقول  "بالراحة بالراحة منك له لمطربان المربى ينكسر " ثم يرد عليها أحمد زكي جرى إيه يا وليه !
 أدور دورة أخيرة قبل أن تنتهي المعزوفة ، تبصق سعاد القهوة فيحملق فيها أحمد زكي  ويقول : ايه ده ؟ ايه ده ؟  البن ده وحش أوي !  وتمسح ما تلطخت به يديها من القهوة بملابسها ، بس مش في هدومك ! مش في هدومك يقول أحمد زكي ينقطع الفيلم قليلا ً ثم يعود وهي تميل بكتفيها و وجهها وتضحك قائلة : أنا عواطف ..عواطف بنت أختك بهية يا خالي البيه ، ينفذ صوتيهما بقدرِ كافٍ لأن يكون الرجل قد عاد إلى السابعة من عمره الآن ها هو يغفو و أفرغ أنا من دورتي الآخيرة ، و حينما يقبل الصبح يشد الشتاء عليه النوم لكنه يصحو ، يفرك التعب عن العينين و ينصرف لمعتركه الكبير ، يكفيه نهارٌ ليصير رجلًا ثم ليل ليعود طفلًا فيقدر على مواجهة الحياة ،و وجوه الغرباء . و أقفُ أنا قرب النافذة . أقلتُ في بداية الحديث أني منذ زمن طويل لم أحرك أطرافي المتيبسة ؟ عدلت عن حديثي ،لا يعنيني الزمن لا  الليل  أو النهار ، إنها يده و حسب تمتد إلى الصندوق  وتدير المفتاح لتنبعث الموسيقى ويخفق قلبي من جديد  وحينما تنتصف  يكون قد عاد طفلًا وأكون قد كبرت  فيصعب أن نلتقي و إذ ما انتهت أكون متِ !
لا ضوء ولا عتمة ، لا ذاكرة ، لا قلب ،لا بكاء ،لا حسرة   ، لا شيء !











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق