السبت، 7 أبريل 2018

على مفترق الطريق السريع



تحدثت إلي و شعرها ينساب على كتفيها تجلس مستقيمة و تلف الساق بالساق ، ثم تقول 
" حكا كتير شغلات والله " كتير حكي ، كان يحلم بي ، يرسم خيالي على الطرقات يكتب لأني موجودة  و يكمل السير على أملِ أن أقبل به في حياتي . تحدثت و عينيها تغمضان برفق وكأنها تخبىء فيهما شيء تخاف أن يقع تميل برأسها لليمين و تبتسم ببطء فجأةً لا كشيء ثقيل بل كشيء تتدفق فيه الحياة و اليقظة لتوها مثلما يفرد طفل يديه الصغيرتين وكما تميل شجرة الياسمين بروية و هدوء في صباحات الشتاء وكما يبكي مسن يمنع البكاء فيغالبه وينكشف . قلتُ : لم أركِ تتحدثين عن أحدِ بهذه الطريقة طوال حياتي إلا مرة واحدة و أنتِ تتحدثين عن والدك قرب نافذة الصف ، ذات الحياة تدفق بروية كي لا تجرفك وتقتلك . كان المشهد يترك في نفسي ذات الأثر الذي يتركه مشهد لوردة  تتفتّح ببطىء أو  لفراشة تفرد جناحيها على مهل شديد  .
فكرّت  بعدما طلبت مني البنت أن أكتب عنها في الوقت الذي تحدثت هي فيه ، قلت كيف أبدو حينما أتحدث أنا عنك ؟ 
وجهك ، وجه  الطفل الواقفُ على مفترق الطريق السريع  وكأنه دليل للمسافرين و السفر  و الضوء يتخلل الذقن و العينين بشدة أتراه يشي بي ؟

وجه مبلل

 تملأ الجروح فمي من الداخل ، لأني حينما أنام و دون أن أشعر بنفسي أعض على لثتي. تقول أمي أن أسناني من الداخل يلزمها تقويم ما لكي أتوقف عن عض لثتي ، آه صحيح إنها لا تراه كذلك بل ترى أن خروج الأسنان عن مسارها يضغط على اللثة و هذا كل ما في الأمر . منذ مدة طويلة و أنا أعاني من هذا الأمر إلا أنني لم أتحدث عنه إلا قبل بضعة أيام ، منذ كنت في المرحلة الإعدادية ، عشر سنوات و أنا أطبق شفتاي على فم أشبه بشيء مشرحٍ من الداخل ، أعرف أن الكلمات التي أبتلعها و أطبق شفتاي عليها تحاول أن تهزمني ليلًا لكني أحكم إغلاق فمي  فتأكل شيء منه .حتى أني في إحدى المرات أخذت تشكو إليّ إحدى البنات من كونها تعض على لثتها وهي نائمة قفلتً لها أنه الكلام المخبوء في داخلك يصير جراحًا .
أشُعر بصعوبة البوح حتى وأنا أحاول أن أكتُب الآن . منذ ثلاثة أيام و أنا عاجزة عن البكاء . أحيانًا حينما أسير لمدة طويلة أشعر بالدموع تبلل وجهي وحدها دون أن أستدعيها و كأن الإنسان لا يستطيع أن يحتمل أن يوجعه جسده و قلبه في آن فيحن القلب على الجسد و يغسله البكاء وفي كل مرة يحدث فيها هذا أتذكر فصلًا يدعى " شعبان مكاوي و أحمد الشحات في  سيرة رضوى عاشور الذاتية حيث تصف فيها شابًا في أول الثلاثينيات يُصاب بمرض الكبد ، وجهه شاحب ، والمرض يلتهم جسده الهزيل في كل يوم لكنه يعمل و يدرس ويترجم في الوقت ذاته و أحيانًا حينما لا يمتلك مالًا كافيًا لركوب "المواصلة " يسير على قدمية ثم تبلل الدموع وجهه و هو يسير في الطرقات، كلا إن المشقة ليست في قلوبنا و حسب بل في الطريق.
أعتقد أن الكتابة هي أمثل ما يمكن أن يفعله المرء كي لا يُنسى ، و أنا مؤمنة أيضًا بأن الكتابة تقدر على مالا يقدر عليه الرسم و إلا لبعث الله للبشرية لوحة كرسالة آخيرة لكنها الكلمات ، الكلمات حيث حزن محمد عليه الصلاة و السلام وحيث قال الله " ولا يحزنك قولهم " ، وحيث سرت رهبة النسيان في صدر النبي فقال له ربه " لا تحرك به لسانك لتعجل به ، إنا علينا جمعه و قرآنه " و الكلمات حيث أحكي لبنتٍ لا أعرفها قبل أن تنام حكاية لتشفى من الخذلان  فأغفو داخلها و حينما أغيب أمر عبر صدرها لأني لم أحكِ اليوم ولأن حكاية ربما تزيح عنها الكثير من الوجع فتبعث إلي برسالة تقول فيها  " أين ذهبت الحكايا و أحيانًا تقول :" وحشتيني "

مرة أخرى : تفتقد الفتاة الطمأنينة التي تسري داخلها بفعل الحكايا لا أنا وفي الوقت ذاته لا تعرف أن نفس هذه الفتاة التي تبعث إليها بالقصص تطبق فمها المجرّح بالكلمات دون أن يحكي لها أحد أي شيء  .

الاثنين، 26 فبراير 2018

زهرَت البنت

لم  أميز وقتها إن كنت أحلم أم أن صوت مايا يجيء من أرض حجرتنا ، شعرتُ فجأة أني أختنق لم يكن منامًا كانت مايا تبكي و تقول أنها لا تستطيع الحراك ، إلا أنها تشد على جوانب السرير الحديدي الأسود بيديها الصغيرتين ، و الدماء تملأ بنطالها ، وأمي تسوقها أصواتنا في منتصف الليل إلينا  تقف في حجرتنا و تمد يدها لمايا وتقول : مش قادرة تتحركي ؟
تهز مايا برأسها و تبكي .
يقولون : زهرّت البنت ، صارت أمًا للحياة الآن ، بضعة أشهر و يتشكل جسدها ، ينفر الصدر ، تٌنحت الكمنجة عند الخاصرة و في الوقت ذاته تشعر أنها تود أن تخبىء كل هذا ، لا تحبه ، لا تريد أن يبصره الكل ، تختار الواسع من الثياب ثم مع الوقت تعتاد الذي صارت عليه وحينما تكبر أكثر تحبه لا لكونها كيف تبدو بل لأنها تفهم الآن جيدًا كيف صارت مهدًا للحياة .
لم تزل مايا صغيرة في العاشرة من عمرها و حسب ، لقد بكيت معها ليلة البارحة حتى أني لم أستطع أن أنام حتى الرابعة فجرًا . تذكرت نفسي و أنا أقف و أحمل ثيابي المبللة بالدماء للمرة الأولى و أبكي .
يا الله لم تزل في العاشرة فقط تقول أمي ، و يصفر لونها  ، تشد مايا إليها و تحملها و تسير بها  لتبدل ملابسها و تهدىئها ثم تجلب  غطاء كبير  ، تطفىء الأضواء ثم  تنام قربها و تلف الغطاء عليهما معًا
في الظلام  ومع انعكاس الأضواء الخافتة من  النافذة ليللاً بدت أمي وكأنها أعادت مايا لرحمها من جديد ، بدت وكأنها تتحسس رحمها و تبكي و هي تروح و تجيء بيديها على مايا من فوق الغطاء.
و البنت تبكي لا بد أن المعول يضرب ظهرها ، بطنها ، جنبها و فخذيها الآن
أحيانًا أفكر .أقول لم كل هذا الوجع يا الله !
وما ألبث إلا أن أصل لحقيقة أن كل الذي حدث ما كان إلا انهيار الرحم بسبب الاحتمال ، كان احتمالًا أن تخلق في جوف الفتاة  روح أخرى  ، أن يتشكل القلب وينبض فيها قلبين إلا أن هذا لم يحدث ، فكيف يعبر الجسد عن هوسه بالاحتمالات  ؟
.ألسنا نخاف أن يحدث شيء أو ألا يحدث ، أن نتأخر صباحًا ، أن تفوتنا محاضرة ما ، أن نخسر المقعد قرب النافذة في الحافلة صباحًا ؟
فكيف بالجسد و هو مهوس باحتمال أن تسكنه روح آخرى ؟
سيضرب المعول و سيضرب حتى يفتت نفسه ثم يبنيها من جديد ، يشبه هذا الحب و الهجران و الموت و الولادة و يشبهنا نحن ثلاث فتيات في العشرين من عمرهن يتحسسن أرحامهن في الظلام و يستعدن اللحظة المربكة ذاتها ، و أمي  تفرد روحها وتمد غطاءها كخيمة على استعداد تام لأن تعيدنا جميعًا إن ضاقت بنا الحياة لرحمها ، وتظل تروح و تجيء بيديها .

الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

صندوق موسيقى

(1) 


لا أذكر متى آخر مرة استطعت فيها تحريك يداي و أطراف أصابعي منذ زمن طويل أقف قرب النافذة على قدم واحدة أميل برأسي وأمد ذراع واحدة و كلما جاء الليل أستمرُ في الدوارن وصوت الموسيقى  المنبعث من أسفل المكان يشبه أن ينبش أحدًا أحزان الآخرين ثم يبكي عليها لأنها تنكأ شيء في نفسه . أكمام الدانيتل جميلة و لكنها ضيقة وتترك في الجلد طرقات و جسور ، رباط الحذاء الممتد من الكعب إلى الساق يتسبب بخدرِ يصل للعصب .أتوقف عن الاحساس بقدماي .
أطير ؟ أم أقف ؟  لا يهم . 


(2) 
توقفي عن النبش في حياة الآخرين تقول رنا .أنا لا أنبش ، يسوق الله الحكايا إلينا وحدها،  ولا أحكي حتى .أنا وجه ُ بلا شفتان لكني أملك صوت ينبعث  كلما لزم الأمر من الداخل .أتسمعني الآن ؟ أتسمع مثلاً حينما أهدهد أحلامنا الصغيرة أو أبيد الكبيرة لأنها ستبتلعنا بعد قليل ، أعاركها ، و أنتصر عليها حينما تموت لأتزن و لأظل قربك و دون ترتيب مسبق أجدني أربي عبر الأيام اتجاهك شيء يشبه إحساس الأم بوخز جنينها . ثم الأم اتجاه وليدها ، ثم الأم تربي و تشتاق و تغفر الأخطاء كلها دون أن ترغب بشيء في المقابل ، إنها تريد أن يكبر الصبي ويشتد عوده ، تعطيه من عظمها ولحمها و دمها و صوتها و تزرع ليله بالأغنيات ثم ترقبه وهو يشق طريقه في الحياة و يمضي .
 " ضحكه ينزل عليها كالبكاء " و بكاءه يفعل الشيء ذاته !


(3)

إلى الصبية التي تبحث عن حبيبها فيما أكتب ، حينما أقول لك أنه ليس هنا تظلين رغم أني لم أكذب تصدقين نفسك .سأهمس في قلبك اليوم قبل أن تغفي و أقول : " هيه يا صبية اسكيه شربة ميه "  ، يا وجهك عذب وحلو و يا قلبك أقحوان و يا شريانك الحقيقة . 


(4) 

لا يعرف كيف يغفو دون أن يتوزع الصخب حوله في المكان ، يحتفظ بالأغنيات القديمة ، مسلسل ألف ليلة وليلة ، أو " هي و هو " وأي شيء قديم  يحمل عبق الطفولة و وجه البنت التي حينما صادفها على الطريق بعد أن شدت أمها على جدائلها صباحًا الشرائط البيضاء أحس بالخفقان في صدره يعلو رغم أنه لم يكن إلا طفلًا " ممحوة عن وجهه العذابات " . 
وُلدا في نفس اليوم ، ولهذا كان يخيل إليه في كل عيد ميلاد أن كل واحد منهم يحتفل بالآخر لا بميلاده شخصيًا . 
يلتهمنا الجمال أليس كذلك ؟ أحس أننا ندفع ثمنه أرواحنا . 
لكني أصدق في الوقت ذاته أن الأشياء الجميلة  لا يمكن حصرها بزمن معين ، لا يمكن أن نقول أن هذا شيء جميل لكنه تأخر ، لأن الجمال الحقيقي هو الذي يفرض وجوده ، يعجن قلبك من جديد بالحب و الأمنيات ، يرجعك طفلًا يبدد سطوة الذاكرة ، و يحشو الشرخ في الروح بالتراب ، لم العجب ؟! أجل بالتراب لتصير قادرة على أن تخضّر بسواعد الإنسان نفسه. 
ها هو صوت سعاد حسني يعلو مجددًا وهي تغني " هوّ و هيّ " و تتمايل بجسدها النحيل و وجهها ينزلق في الذاكرة كما يسير الندى على  حبات الورد . 
فيرجع الرجل طفلًا  .. ،   سينام بعد قليل " نومة غزلان في البرية"  هكذا تقول الأغنية الفلسطينية .
حينما ينام الغزال يضم نفسه إلى نفسه ، و يميل برأسه ، ويبدو مطمئنًا للحد الذي نطمئن نحن فيه حينما ننظر إليه ، و كأن هنالك من يضمه لصدره رغم أنه في قلب الغاب المتوحش . 
مالفرق بين العالم  و الغاب ، بين الأم التي تهدهد ابنها و بيني ، بينك و بين الطفل الغافي ، بيننا و بين الأغنية ؟ 
غدًا حينما تتناول عودك و تروح وتجيء عليه بقلبك قبل يدك ستجد جواب السؤال ! 

(5) 

لا أمل من الوقوف في الصندوق المركون على المنضدة قرب النافذة ،  لا أكلّ أو أتعب ، و أرقبك من بعيد و أنت تجر أذيال تعبك الثقيل تدير مفتح الصندوق  ثم تنظر إلي  وأنا أتوسطه و صوت الموسيقى يعلو ،  سعاد حسني تسير بثوبها الأسود و تحمل بيدها السلال و تقول  "بالراحة بالراحة منك له لمطربان المربى ينكسر " ثم يرد عليها أحمد زكي جرى إيه يا وليه !
 أدور دورة أخيرة قبل أن تنتهي المعزوفة ، تبصق سعاد القهوة فيحملق فيها أحمد زكي  ويقول : ايه ده ؟ ايه ده ؟  البن ده وحش أوي !  وتمسح ما تلطخت به يديها من القهوة بملابسها ، بس مش في هدومك ! مش في هدومك يقول أحمد زكي ينقطع الفيلم قليلا ً ثم يعود وهي تميل بكتفيها و وجهها وتضحك قائلة : أنا عواطف ..عواطف بنت أختك بهية يا خالي البيه ، ينفذ صوتيهما بقدرِ كافٍ لأن يكون الرجل قد عاد إلى السابعة من عمره الآن ها هو يغفو و أفرغ أنا من دورتي الآخيرة ، و حينما يقبل الصبح يشد الشتاء عليه النوم لكنه يصحو ، يفرك التعب عن العينين و ينصرف لمعتركه الكبير ، يكفيه نهارٌ ليصير رجلًا ثم ليل ليعود طفلًا فيقدر على مواجهة الحياة ،و وجوه الغرباء . و أقفُ أنا قرب النافذة . أقلتُ في بداية الحديث أني منذ زمن طويل لم أحرك أطرافي المتيبسة ؟ عدلت عن حديثي ،لا يعنيني الزمن لا  الليل  أو النهار ، إنها يده و حسب تمتد إلى الصندوق  وتدير المفتاح لتنبعث الموسيقى ويخفق قلبي من جديد  وحينما تنتصف  يكون قد عاد طفلًا وأكون قد كبرت  فيصعب أن نلتقي و إذ ما انتهت أكون متِ !
لا ضوء ولا عتمة ، لا ذاكرة ، لا قلب ،لا بكاء ،لا حسرة   ، لا شيء !











الجمعة، 8 ديسمبر 2017

طلعلي البكي




(1)

وجه العالم لزج ، و شرفة الدار بلا باب ، تطُل على سبع شجرات مقطوعة و سرب حمام يدور  ، حبل الغسيل ملول ، و الحجرة تسكنها روح امرأة تشعر بالاغتراب  وصلت للدار طفلة و صارت اليوم 

" طفلة أم" لأطفال تسعة . يلعب الهواء بحبل الغسيل قليلًا يروح و يجيء تبدو الكنزة البيضاء كبومة تفرد جناحيها  و الملاقط الملونة التي وزعتها السيدة صباحًا على الحبال أحلامنا الصغيرة . وصوت أزيز باب الحجرة كلما خرجت يناديها : تعالي .. لا تتركي الشرفة وحيدة !  سنبصر "كل جرح حديقة "  . وحينما تقترب و هي تحمل بيديها الصغيرتين فنجانين  من القهوة لا أميز الكلف المنثور على وجهها تحت العينين  لتدفق الضوء فجأة وحينما تقترب يختفي وجه العالم ويظل وجهها .


(2) 

السراب يملأ المكان ، الغصن الأخضر يثقل فجأة و يرتمي صوب وجهي كحبل يُرمى من مكان ما لينجد الغارقين في حزنهم ، لا وجه للعالم هذه المرة ، الهواء بارد جدًا و الفراشة خارج نافذة السيارة على جنبات الطريق المزروعة بالياسمين تعلو وتحط فيلحقها بصري ، حينما يشتد الهواء تتستمر في تحريك جناحيها الرقيقين لكنها لا تتقدم خطوة واحدة للأمام لا ترجع للوراء أيضًا ، إنها فقط تحاول ألا تُهزم .
رائحة الخبيز تفوح في الطريق لأن مخبزًا صغيرًا منذ الفجر يشعل مواقده و تحضر فيه ثلاث نساء من اليمن الفطائر الفرنسية و القهوة .
وأنا أضيع في هذا الصباح . أرجع لله و أتحدث إلى صديقتي ثم أنفجر بكاءً على أحد مقاعد المقهى .إن الأناس الحقيقيون ما هم إلا حبل من حبال الله .
لا أفكر فيك . لا أقول لو أنك هنا ، لأ أرجو أن أبكي على كتفك حتى ، لست غاضبة ، بل أسير على خطاك ، أصير ممتلئة بالرفض رغم الحب ، أتعرف مالذي يحدث في قلب معجون بالحب والرفض معًا ؟ 

ثم تجيء دون قصد مني أومنك  كما عرفتك قبل سنين ، لا تكثر الحديث لا تكترث للخراب  و تغزل المعنى عبر الأغنيات " الدنيا لو جرح لونها لون فرحة "
أقصدتُ قبل قليل أنك حين لا  أجيء ، تجيء ؟ 

لست أعرف ، لكني أريد الآن أن أغني 


بعيونك حنين "
"وبسكوتك حنين 



  

الجمعة، 1 ديسمبر 2017

متلازمة الأشجار

"  متلازمة الأشجار " 



أنت تقف وحدك في وجه كل شيء رغم أنك تملك أصدقاء طيبين يمسحون دموعك و وجهك المبلل بالحزن و الفقد بأكمامهم و أصابعهم الرفيعة، التي  "كأنما خلقت لتنقية الأحلام . "
تقف في وجه الذاكرة و الوقت وحدك ، تلغي الذاكرة الوقت. تفقده قوته ، يتضاءل أمامها بعدما كان نسرًا جارحًا ، يتساقط جناحيه و يصبح عاريًا وتظل هي . 


وقفت على رأس الجبل أنا وماري  ليضيق نفسي ثم أعود لمنطقة  أقل ارتفاعًا فيتسع ، انتقال خفيف و وهمي من الضيق للسعة ليعيق الذاكرة أيضًا . صادفت هناك فتاة تحمل رواية ضخمة ، لمحت في تقديمها  الكلمات التالية : " فتاة الورق التي تخرج من قلب الكتاب و تصير في حياة الكاتب " ، كانت ماري تقرأ أيضًا ثم ضحكت و قالت لي : فتاة الورق مثلك ! 
غضبت .. ، 
أنا لست فتاة الورق . قلت لها : أنا الفتاة الشجرة
 . 
يبوح الناس بأشيائهم لك حينما يجدون فيك القدرة على تصورها ، و أحيانًا لأن خيالك يذهلهم ، قلت لهدى أن الشجر العاري على الطريق يشبه الجثث المصلوبة ، وأن المقطوع منها يشبه أن يتركنا أحد ، ينتهي كل شيء " الضي و الفي " و يظل آخر الجذع ، و الجذور تمسك في أعماقك كمخلب . و أحيان أخرى  يصير آخر الجذع مقعدًا .
يشبه الذكرى التي تمر فنستريح إليها رغم أنها مدعاة للبكاء .    

   بصي ، أنا مش عايزه أقولك كلامك بيعمل فيا إيه بس ربنا موجود * تقول الفتاة التي أصرت أن تعرفني لأني فلسطينية و لأن الوعي الجمعي لدينا سيضيف لها شيء ، "لأن "الألم في حروفك بيخترقني و انا بقدر ده و بحس بده   

 يشد الألم الآخرين إلينا  حقًا ، لا محض مصادفة ، ولا أقصد بهذا أن الألم بحد ذاته ميزه ، لكنه يصقل النفس ، يهذبها ، يدنيها من الله يعلمها معنى أن يكتب جبران خليل جبران " زاهدا فيما سيأتي ناسيا ما قد مضى " . 

 انتظر أن يفتح لي أحدهم باب البناية و أمي برفقتي .كعادتي أنسى المفاتيح المهم أن أخرج للعالم ليس المهم كيف سأرجع للديار .جلست أمي على أحد الجذوع المقطوعة و المغروسة في الرصيف . شعرت أنها تؤكد على الفكرة و كأنها تقول أني على صواب

بعد يومين فقط ، قالت ونحن نسير  : جذوع الشجر التي لم يستطع الإنسان اقتلاعها بعدما قطع الشجر تشبه أناس يمدون أياديهم ، واقفين في أماكنهم ، عاجزين عن الحراك نادمين في الوقت ذاته . ضحكت، أعتقد أني الآن على الأقل أفهم سبب إصابتي بمتلازمة الأشجار . يقولون
" إقلب الجرة على تمها تطلع البنت لأمها

أنا كأمي حينما نفكر ، لكن ليس حينما نحب ، تتفوق الأمهات علينا ، إنهن السبيل الوحيد و الأبدي نحو الله ، صوب  الحقيقة و ذواتنا و اتساع السماء


أهرب من البكاء ، و" مشارف الاكتئاب " بالكتابة  مثلما تقول رضوى عاشور .
أقف عند التعبير طويلًا لم تقل رضوى انها اكتئبت ، لم تجزم بوقوع الشيء .  قالت: مشارف أي قد يحدث و قد تتغلب عليه قبل أن يقع أصلًا . كيف تجزم به وهي التي " تكره تيئيس الناس " ، تكره أن يصاب الإنسان بالحزن فيعممه و يسقطه على الجميع

أعرف أن الإنسان  يهرب من التعب للشجر و أعرف أيضًا أن الورق جاء من الشجر نفسه و أنه في الحالتين منحنا هروبنا من تعبنا .
فتاة الورق أو الفتاة الشجرة كليهما كالآخر فلماذا غضبت ؟ 
لأني أعرف في أعماقي أني أكتب عوضًا عن شيء آخر . لا لفعل الكتابة بذاته ربما

لم أفلت يدك لكني لم أرجع إليك . أنا أسير وحدي  دائمًا .  

السير الطويل يقوم الظهر تقول السيدة وفاء . ويصلح ما اعوج من فقرات عمودك يا بنت ، يسند القامة و تصيرين امرأة بأكتاف قائمة ينسدل عليها الثوب بجمال و هدوء  . 
تربط والدتي السيدة وفاء  بين  المرأة وكل الأشياء بطريقة فريدة من نوعها 
.

أخذني حديثها هذا لمشهد قديم في بيتنا حينما سكنا مكة المكرمة . لم أنسه . تقف ، و  
تستمع لأغنية قديمة في الحجرة المعتمة إلا من ضوء خفيف يجيء من خارجها . تقف في منتصف الحجرة وحيدة و ترقص و الثوب الأسود المقلم على جنابته بالأبيض يتسع و يضيق يروح معها و يجيء و أنا أقف إلى الحائط لا تنتبه لوجودي لفرط ما فعلت بها الأغنية . ولكني أنتبه ، أتذكر جيدًا، أستحضر المشهد بدقه و الضوء كلما عادت لموضعها يشتد و حينما تبتعد تسود العتمة ولو أني استطيع أن أرسم لرسمت المشهد.
لم أقل لها أني تذكرت كيف  كان ينسدل الثوب على أكتافها بجمال و صخب.وصفها السابق للسير كان يشبه تصوري عن الوحدة ،  لا طرقات المشي يصنع الطرقات  هكذا 
يقولون ولا غياب الذاكرة تجلب الآخرين أقول . 

الثلاثاء، 21 نوفمبر 2017

المطر و جيبك





لم أشعر بالنهار كما هو الآن منذ زمن طويل ..، باردُ و خافت . أسير على رؤوس 

أصابعي كي لا أصاب بالبرد المسكوب على البلاط ، أحيانًا أشعر أن تقلبات الجو 

المفاجأة ما هي إلا تذكير بطبائع الناس وحقيقة قلوبهم .

 يقولون يتغير الكل ، و يقولون أيضًا .."قلب العبد بين أصابع الرحمن يقلٌبه كيف يشاء " . لماذا لا أتغير أنا ؟ أو دعني أطرح السؤال بشكل أوضح لم  أقاوم أن يتغير في نفسي شيء و ألوذ بها بعيدًا ؟ أو أني أتغير كسائر الناس دون أن اشعر ؟  

للمطر رائحة طيبة يقول أهل البلاد الذين يعيشون في قلب المدن العتيقة ،  رائحة الأرض بعد المطر تشبه رائحة حبيبتي يقول الصبي الواقف على أعتاب الديار ، و للمطر أيضًا رائحة الموت إذ يهمل الناس الطرقات فتصير ضنكًا بدلًا  من كونها مسلكا و درب
غريب كيف يأتي الإنسان بنقيض الشيء حينما يسيء التصرف ، مثلما يتخلى المرء عن أولئك الذين أحبوه و حينما يرجع إليهم يجدهم وقد صاروا "قطارًا" مثلما تقول سنديانة . قالت وهي تشيح بوجهها عنا :نصير قطارًا مع الوقت .
 فأفسر أنا قولها : قطار يظل قادر على حملهم و السفر بهم و لكنه في الوقت ذاته يؤمن أنه قادر على الرحيل دون أن ينكسر هذه المرة . و أنه ببساطة خلق للسفر  مخلفَا وراءه البكاء و الهدير العالي في رؤوس الناس ، ولهذا بالذات كانت تقول فيروز في أغنيتها هذا الصباح
 "
يا سفر المنك سفر بكرة الناس بينسوكي "  
يسير السحاب من بلاد لأخرى  ، مثلما أكتب الآن لك دون سبب مفهوم
أحيانًا أقسم ألا أكتب لك . ولكني أعدل عن هذا في كل مرة .
تقول و أنت تضحك ..كأنك لم تبكِ قبل الآن
"  
ما عاش ولا كان الي يهزمني   "
فأرد عليك  ممازحة :أنا أهزمك كل يوم  .
بيني و بين نفسي  أعرف ايضًا أنك تفعل بي  الشيء ذاته ولكني لم أقل


يتسلل الضوء عبر الستائر المنسدلة كشيء ضعيف لأن السماء ملبدة بالغيوم. صوت المطر وهو يدق  الأبواب و النوافذ يشبه الهرب من الذاكرة . إذ أنت محبوسٌ داخلك تنهال عليك الأشياء كلها لكن الفرق أنها تنهال من الداخل لا بيت يحميك منك و أنت 
"
تتردد للأعماق.
كنت أشعر فيما مضى أن كل الذين نحبهم موجودون في أعماقنا ،   خُلقوا داخلنا يوم خُلقنا، لكننا لا نشعر بهم إلا إذ التقيناهم
 
ولهذا حينما  التقيت بك في المرة الأولى شعرت أن شيء في داخلي يوجعني  يشبه أن يشق الغصن برعم
لقد خفت و تجنبتك ثم  مضيت في طريقي مكثت لعامٍ كامل أتجنبك .
ثم هكذا ببساطة ينهار كل شيء ؟

أقول كل شيء سيمضي ، لكنك تظل.. تظل مهما مضت الأشياء

أشار علي صافي قبل أيام بأنني لست كاتبة شاطرة ولكني كاتبة ذكية .. ضحكت منه و سألته : مالفرق بين الكاتبة الشاطرة و الذكية يا فيلسوف ؟ 

فأردف :  أن الكاتبة الشاطرة تملك مقومات لغوية هائلة و الكاتبة الذكية تطوع مقوماتها البسيطة في رسم الصورة المذهلة مثلما تفعلين أنت .
ضحكت ،  لم أقل له أني فتاة تحاول محو وجهك أو حمله بحذر كي لا تجرح نفسها أو تكسره ، تحاول التخفف من نفسها على الورق ليس إلا  . 

لاتعدني  بأنني لن أذبل بالشتاء و بأن فيروز لن تصدق في أقوالها دائمًا .. أو أنها كانت ترى منامًا حزينًا  حينما غنت " يروح و ينساها و  تدبل بالشتي .. " ولاتقل  أنها لم تقصد أي شيء  . لا تقل أننا يوما ما سنسير في الطريق معا و سأدس يدي الباردتين في جيبك 
عدني  أنه و إن لم يحدث أي شيء أن تظل مثلما أنت تحب المطر و تفرح به كطفل صغير لا تعطه أبعاد ومعانيه  فيخدشك بل  تحبه وتفرح به و لا تكترث للتفاصيل كثيرًا ولا تحاول أن تفهم أسباب الأشياء بإصرار مثلما أفعل أنا . وتقول بصوت عال
"
شوية المطرة دول حلوين أوووي يارب "
 
فيصل صوتك للسماء و روحك صافية يغسلها البكاء و يمنحها سرورها المطر .. ويدفع السحاب للسير إلى الضفة الأخرى لنقول  حقيقة لا مجاز سقانا الله معًا .