الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

صندوق موسيقى

(1) 


لا أذكر متى آخر مرة استطعت فيها تحريك يداي و أطراف أصابعي منذ زمن طويل أقف قرب النافذة على قدم واحدة أميل برأسي وأمد ذراع واحدة و كلما جاء الليل أستمرُ في الدوارن وصوت الموسيقى  المنبعث من أسفل المكان يشبه أن ينبش أحدًا أحزان الآخرين ثم يبكي عليها لأنها تنكأ شيء في نفسه . أكمام الدانيتل جميلة و لكنها ضيقة وتترك في الجلد طرقات و جسور ، رباط الحذاء الممتد من الكعب إلى الساق يتسبب بخدرِ يصل للعصب .أتوقف عن الاحساس بقدماي .
أطير ؟ أم أقف ؟  لا يهم . 


(2) 
توقفي عن النبش في حياة الآخرين تقول رنا .أنا لا أنبش ، يسوق الله الحكايا إلينا وحدها،  ولا أحكي حتى .أنا وجه ُ بلا شفتان لكني أملك صوت ينبعث  كلما لزم الأمر من الداخل .أتسمعني الآن ؟ أتسمع مثلاً حينما أهدهد أحلامنا الصغيرة أو أبيد الكبيرة لأنها ستبتلعنا بعد قليل ، أعاركها ، و أنتصر عليها حينما تموت لأتزن و لأظل قربك و دون ترتيب مسبق أجدني أربي عبر الأيام اتجاهك شيء يشبه إحساس الأم بوخز جنينها . ثم الأم اتجاه وليدها ، ثم الأم تربي و تشتاق و تغفر الأخطاء كلها دون أن ترغب بشيء في المقابل ، إنها تريد أن يكبر الصبي ويشتد عوده ، تعطيه من عظمها ولحمها و دمها و صوتها و تزرع ليله بالأغنيات ثم ترقبه وهو يشق طريقه في الحياة و يمضي .
 " ضحكه ينزل عليها كالبكاء " و بكاءه يفعل الشيء ذاته !


(3)

إلى الصبية التي تبحث عن حبيبها فيما أكتب ، حينما أقول لك أنه ليس هنا تظلين رغم أني لم أكذب تصدقين نفسك .سأهمس في قلبك اليوم قبل أن تغفي و أقول : " هيه يا صبية اسكيه شربة ميه "  ، يا وجهك عذب وحلو و يا قلبك أقحوان و يا شريانك الحقيقة . 


(4) 

لا يعرف كيف يغفو دون أن يتوزع الصخب حوله في المكان ، يحتفظ بالأغنيات القديمة ، مسلسل ألف ليلة وليلة ، أو " هي و هو " وأي شيء قديم  يحمل عبق الطفولة و وجه البنت التي حينما صادفها على الطريق بعد أن شدت أمها على جدائلها صباحًا الشرائط البيضاء أحس بالخفقان في صدره يعلو رغم أنه لم يكن إلا طفلًا " ممحوة عن وجهه العذابات " . 
وُلدا في نفس اليوم ، ولهذا كان يخيل إليه في كل عيد ميلاد أن كل واحد منهم يحتفل بالآخر لا بميلاده شخصيًا . 
يلتهمنا الجمال أليس كذلك ؟ أحس أننا ندفع ثمنه أرواحنا . 
لكني أصدق في الوقت ذاته أن الأشياء الجميلة  لا يمكن حصرها بزمن معين ، لا يمكن أن نقول أن هذا شيء جميل لكنه تأخر ، لأن الجمال الحقيقي هو الذي يفرض وجوده ، يعجن قلبك من جديد بالحب و الأمنيات ، يرجعك طفلًا يبدد سطوة الذاكرة ، و يحشو الشرخ في الروح بالتراب ، لم العجب ؟! أجل بالتراب لتصير قادرة على أن تخضّر بسواعد الإنسان نفسه. 
ها هو صوت سعاد حسني يعلو مجددًا وهي تغني " هوّ و هيّ " و تتمايل بجسدها النحيل و وجهها ينزلق في الذاكرة كما يسير الندى على  حبات الورد . 
فيرجع الرجل طفلًا  .. ،   سينام بعد قليل " نومة غزلان في البرية"  هكذا تقول الأغنية الفلسطينية .
حينما ينام الغزال يضم نفسه إلى نفسه ، و يميل برأسه ، ويبدو مطمئنًا للحد الذي نطمئن نحن فيه حينما ننظر إليه ، و كأن هنالك من يضمه لصدره رغم أنه في قلب الغاب المتوحش . 
مالفرق بين العالم  و الغاب ، بين الأم التي تهدهد ابنها و بيني ، بينك و بين الطفل الغافي ، بيننا و بين الأغنية ؟ 
غدًا حينما تتناول عودك و تروح وتجيء عليه بقلبك قبل يدك ستجد جواب السؤال ! 

(5) 

لا أمل من الوقوف في الصندوق المركون على المنضدة قرب النافذة ،  لا أكلّ أو أتعب ، و أرقبك من بعيد و أنت تجر أذيال تعبك الثقيل تدير مفتح الصندوق  ثم تنظر إلي  وأنا أتوسطه و صوت الموسيقى يعلو ،  سعاد حسني تسير بثوبها الأسود و تحمل بيدها السلال و تقول  "بالراحة بالراحة منك له لمطربان المربى ينكسر " ثم يرد عليها أحمد زكي جرى إيه يا وليه !
 أدور دورة أخيرة قبل أن تنتهي المعزوفة ، تبصق سعاد القهوة فيحملق فيها أحمد زكي  ويقول : ايه ده ؟ ايه ده ؟  البن ده وحش أوي !  وتمسح ما تلطخت به يديها من القهوة بملابسها ، بس مش في هدومك ! مش في هدومك يقول أحمد زكي ينقطع الفيلم قليلا ً ثم يعود وهي تميل بكتفيها و وجهها وتضحك قائلة : أنا عواطف ..عواطف بنت أختك بهية يا خالي البيه ، ينفذ صوتيهما بقدرِ كافٍ لأن يكون الرجل قد عاد إلى السابعة من عمره الآن ها هو يغفو و أفرغ أنا من دورتي الآخيرة ، و حينما يقبل الصبح يشد الشتاء عليه النوم لكنه يصحو ، يفرك التعب عن العينين و ينصرف لمعتركه الكبير ، يكفيه نهارٌ ليصير رجلًا ثم ليل ليعود طفلًا فيقدر على مواجهة الحياة ،و وجوه الغرباء . و أقفُ أنا قرب النافذة . أقلتُ في بداية الحديث أني منذ زمن طويل لم أحرك أطرافي المتيبسة ؟ عدلت عن حديثي ،لا يعنيني الزمن لا  الليل  أو النهار ، إنها يده و حسب تمتد إلى الصندوق  وتدير المفتاح لتنبعث الموسيقى ويخفق قلبي من جديد  وحينما تنتصف  يكون قد عاد طفلًا وأكون قد كبرت  فيصعب أن نلتقي و إذ ما انتهت أكون متِ !
لا ضوء ولا عتمة ، لا ذاكرة ، لا قلب ،لا بكاء ،لا حسرة   ، لا شيء !











الجمعة، 8 ديسمبر 2017

طلعلي البكي




(1)

وجه العالم لزج ، و شرفة الدار بلا باب ، تطُل على سبع شجرات مقطوعة و سرب حمام يدور  ، حبل الغسيل ملول ، و الحجرة تسكنها روح امرأة تشعر بالاغتراب  وصلت للدار طفلة و صارت اليوم 

" طفلة أم" لأطفال تسعة . يلعب الهواء بحبل الغسيل قليلًا يروح و يجيء تبدو الكنزة البيضاء كبومة تفرد جناحيها  و الملاقط الملونة التي وزعتها السيدة صباحًا على الحبال أحلامنا الصغيرة . وصوت أزيز باب الحجرة كلما خرجت يناديها : تعالي .. لا تتركي الشرفة وحيدة !  سنبصر "كل جرح حديقة "  . وحينما تقترب و هي تحمل بيديها الصغيرتين فنجانين  من القهوة لا أميز الكلف المنثور على وجهها تحت العينين  لتدفق الضوء فجأة وحينما تقترب يختفي وجه العالم ويظل وجهها .


(2) 

السراب يملأ المكان ، الغصن الأخضر يثقل فجأة و يرتمي صوب وجهي كحبل يُرمى من مكان ما لينجد الغارقين في حزنهم ، لا وجه للعالم هذه المرة ، الهواء بارد جدًا و الفراشة خارج نافذة السيارة على جنبات الطريق المزروعة بالياسمين تعلو وتحط فيلحقها بصري ، حينما يشتد الهواء تتستمر في تحريك جناحيها الرقيقين لكنها لا تتقدم خطوة واحدة للأمام لا ترجع للوراء أيضًا ، إنها فقط تحاول ألا تُهزم .
رائحة الخبيز تفوح في الطريق لأن مخبزًا صغيرًا منذ الفجر يشعل مواقده و تحضر فيه ثلاث نساء من اليمن الفطائر الفرنسية و القهوة .
وأنا أضيع في هذا الصباح . أرجع لله و أتحدث إلى صديقتي ثم أنفجر بكاءً على أحد مقاعد المقهى .إن الأناس الحقيقيون ما هم إلا حبل من حبال الله .
لا أفكر فيك . لا أقول لو أنك هنا ، لأ أرجو أن أبكي على كتفك حتى ، لست غاضبة ، بل أسير على خطاك ، أصير ممتلئة بالرفض رغم الحب ، أتعرف مالذي يحدث في قلب معجون بالحب والرفض معًا ؟ 

ثم تجيء دون قصد مني أومنك  كما عرفتك قبل سنين ، لا تكثر الحديث لا تكترث للخراب  و تغزل المعنى عبر الأغنيات " الدنيا لو جرح لونها لون فرحة "
أقصدتُ قبل قليل أنك حين لا  أجيء ، تجيء ؟ 

لست أعرف ، لكني أريد الآن أن أغني 


بعيونك حنين "
"وبسكوتك حنين 



  

الجمعة، 1 ديسمبر 2017

متلازمة الأشجار

"  متلازمة الأشجار " 



أنت تقف وحدك في وجه كل شيء رغم أنك تملك أصدقاء طيبين يمسحون دموعك و وجهك المبلل بالحزن و الفقد بأكمامهم و أصابعهم الرفيعة، التي  "كأنما خلقت لتنقية الأحلام . "
تقف في وجه الذاكرة و الوقت وحدك ، تلغي الذاكرة الوقت. تفقده قوته ، يتضاءل أمامها بعدما كان نسرًا جارحًا ، يتساقط جناحيه و يصبح عاريًا وتظل هي . 


وقفت على رأس الجبل أنا وماري  ليضيق نفسي ثم أعود لمنطقة  أقل ارتفاعًا فيتسع ، انتقال خفيف و وهمي من الضيق للسعة ليعيق الذاكرة أيضًا . صادفت هناك فتاة تحمل رواية ضخمة ، لمحت في تقديمها  الكلمات التالية : " فتاة الورق التي تخرج من قلب الكتاب و تصير في حياة الكاتب " ، كانت ماري تقرأ أيضًا ثم ضحكت و قالت لي : فتاة الورق مثلك ! 
غضبت .. ، 
أنا لست فتاة الورق . قلت لها : أنا الفتاة الشجرة
 . 
يبوح الناس بأشيائهم لك حينما يجدون فيك القدرة على تصورها ، و أحيانًا لأن خيالك يذهلهم ، قلت لهدى أن الشجر العاري على الطريق يشبه الجثث المصلوبة ، وأن المقطوع منها يشبه أن يتركنا أحد ، ينتهي كل شيء " الضي و الفي " و يظل آخر الجذع ، و الجذور تمسك في أعماقك كمخلب . و أحيان أخرى  يصير آخر الجذع مقعدًا .
يشبه الذكرى التي تمر فنستريح إليها رغم أنها مدعاة للبكاء .    

   بصي ، أنا مش عايزه أقولك كلامك بيعمل فيا إيه بس ربنا موجود * تقول الفتاة التي أصرت أن تعرفني لأني فلسطينية و لأن الوعي الجمعي لدينا سيضيف لها شيء ، "لأن "الألم في حروفك بيخترقني و انا بقدر ده و بحس بده   

 يشد الألم الآخرين إلينا  حقًا ، لا محض مصادفة ، ولا أقصد بهذا أن الألم بحد ذاته ميزه ، لكنه يصقل النفس ، يهذبها ، يدنيها من الله يعلمها معنى أن يكتب جبران خليل جبران " زاهدا فيما سيأتي ناسيا ما قد مضى " . 

 انتظر أن يفتح لي أحدهم باب البناية و أمي برفقتي .كعادتي أنسى المفاتيح المهم أن أخرج للعالم ليس المهم كيف سأرجع للديار .جلست أمي على أحد الجذوع المقطوعة و المغروسة في الرصيف . شعرت أنها تؤكد على الفكرة و كأنها تقول أني على صواب

بعد يومين فقط ، قالت ونحن نسير  : جذوع الشجر التي لم يستطع الإنسان اقتلاعها بعدما قطع الشجر تشبه أناس يمدون أياديهم ، واقفين في أماكنهم ، عاجزين عن الحراك نادمين في الوقت ذاته . ضحكت، أعتقد أني الآن على الأقل أفهم سبب إصابتي بمتلازمة الأشجار . يقولون
" إقلب الجرة على تمها تطلع البنت لأمها

أنا كأمي حينما نفكر ، لكن ليس حينما نحب ، تتفوق الأمهات علينا ، إنهن السبيل الوحيد و الأبدي نحو الله ، صوب  الحقيقة و ذواتنا و اتساع السماء


أهرب من البكاء ، و" مشارف الاكتئاب " بالكتابة  مثلما تقول رضوى عاشور .
أقف عند التعبير طويلًا لم تقل رضوى انها اكتئبت ، لم تجزم بوقوع الشيء .  قالت: مشارف أي قد يحدث و قد تتغلب عليه قبل أن يقع أصلًا . كيف تجزم به وهي التي " تكره تيئيس الناس " ، تكره أن يصاب الإنسان بالحزن فيعممه و يسقطه على الجميع

أعرف أن الإنسان  يهرب من التعب للشجر و أعرف أيضًا أن الورق جاء من الشجر نفسه و أنه في الحالتين منحنا هروبنا من تعبنا .
فتاة الورق أو الفتاة الشجرة كليهما كالآخر فلماذا غضبت ؟ 
لأني أعرف في أعماقي أني أكتب عوضًا عن شيء آخر . لا لفعل الكتابة بذاته ربما

لم أفلت يدك لكني لم أرجع إليك . أنا أسير وحدي  دائمًا .  

السير الطويل يقوم الظهر تقول السيدة وفاء . ويصلح ما اعوج من فقرات عمودك يا بنت ، يسند القامة و تصيرين امرأة بأكتاف قائمة ينسدل عليها الثوب بجمال و هدوء  . 
تربط والدتي السيدة وفاء  بين  المرأة وكل الأشياء بطريقة فريدة من نوعها 
.

أخذني حديثها هذا لمشهد قديم في بيتنا حينما سكنا مكة المكرمة . لم أنسه . تقف ، و  
تستمع لأغنية قديمة في الحجرة المعتمة إلا من ضوء خفيف يجيء من خارجها . تقف في منتصف الحجرة وحيدة و ترقص و الثوب الأسود المقلم على جنابته بالأبيض يتسع و يضيق يروح معها و يجيء و أنا أقف إلى الحائط لا تنتبه لوجودي لفرط ما فعلت بها الأغنية . ولكني أنتبه ، أتذكر جيدًا، أستحضر المشهد بدقه و الضوء كلما عادت لموضعها يشتد و حينما تبتعد تسود العتمة ولو أني استطيع أن أرسم لرسمت المشهد.
لم أقل لها أني تذكرت كيف  كان ينسدل الثوب على أكتافها بجمال و صخب.وصفها السابق للسير كان يشبه تصوري عن الوحدة ،  لا طرقات المشي يصنع الطرقات  هكذا 
يقولون ولا غياب الذاكرة تجلب الآخرين أقول . 

الثلاثاء، 21 نوفمبر 2017

المطر و جيبك





لم أشعر بالنهار كما هو الآن منذ زمن طويل ..، باردُ و خافت . أسير على رؤوس 

أصابعي كي لا أصاب بالبرد المسكوب على البلاط ، أحيانًا أشعر أن تقلبات الجو 

المفاجأة ما هي إلا تذكير بطبائع الناس وحقيقة قلوبهم .

 يقولون يتغير الكل ، و يقولون أيضًا .."قلب العبد بين أصابع الرحمن يقلٌبه كيف يشاء " . لماذا لا أتغير أنا ؟ أو دعني أطرح السؤال بشكل أوضح لم  أقاوم أن يتغير في نفسي شيء و ألوذ بها بعيدًا ؟ أو أني أتغير كسائر الناس دون أن اشعر ؟  

للمطر رائحة طيبة يقول أهل البلاد الذين يعيشون في قلب المدن العتيقة ،  رائحة الأرض بعد المطر تشبه رائحة حبيبتي يقول الصبي الواقف على أعتاب الديار ، و للمطر أيضًا رائحة الموت إذ يهمل الناس الطرقات فتصير ضنكًا بدلًا  من كونها مسلكا و درب
غريب كيف يأتي الإنسان بنقيض الشيء حينما يسيء التصرف ، مثلما يتخلى المرء عن أولئك الذين أحبوه و حينما يرجع إليهم يجدهم وقد صاروا "قطارًا" مثلما تقول سنديانة . قالت وهي تشيح بوجهها عنا :نصير قطارًا مع الوقت .
 فأفسر أنا قولها : قطار يظل قادر على حملهم و السفر بهم و لكنه في الوقت ذاته يؤمن أنه قادر على الرحيل دون أن ينكسر هذه المرة . و أنه ببساطة خلق للسفر  مخلفَا وراءه البكاء و الهدير العالي في رؤوس الناس ، ولهذا بالذات كانت تقول فيروز في أغنيتها هذا الصباح
 "
يا سفر المنك سفر بكرة الناس بينسوكي "  
يسير السحاب من بلاد لأخرى  ، مثلما أكتب الآن لك دون سبب مفهوم
أحيانًا أقسم ألا أكتب لك . ولكني أعدل عن هذا في كل مرة .
تقول و أنت تضحك ..كأنك لم تبكِ قبل الآن
"  
ما عاش ولا كان الي يهزمني   "
فأرد عليك  ممازحة :أنا أهزمك كل يوم  .
بيني و بين نفسي  أعرف ايضًا أنك تفعل بي  الشيء ذاته ولكني لم أقل


يتسلل الضوء عبر الستائر المنسدلة كشيء ضعيف لأن السماء ملبدة بالغيوم. صوت المطر وهو يدق  الأبواب و النوافذ يشبه الهرب من الذاكرة . إذ أنت محبوسٌ داخلك تنهال عليك الأشياء كلها لكن الفرق أنها تنهال من الداخل لا بيت يحميك منك و أنت 
"
تتردد للأعماق.
كنت أشعر فيما مضى أن كل الذين نحبهم موجودون في أعماقنا ،   خُلقوا داخلنا يوم خُلقنا، لكننا لا نشعر بهم إلا إذ التقيناهم
 
ولهذا حينما  التقيت بك في المرة الأولى شعرت أن شيء في داخلي يوجعني  يشبه أن يشق الغصن برعم
لقد خفت و تجنبتك ثم  مضيت في طريقي مكثت لعامٍ كامل أتجنبك .
ثم هكذا ببساطة ينهار كل شيء ؟

أقول كل شيء سيمضي ، لكنك تظل.. تظل مهما مضت الأشياء

أشار علي صافي قبل أيام بأنني لست كاتبة شاطرة ولكني كاتبة ذكية .. ضحكت منه و سألته : مالفرق بين الكاتبة الشاطرة و الذكية يا فيلسوف ؟ 

فأردف :  أن الكاتبة الشاطرة تملك مقومات لغوية هائلة و الكاتبة الذكية تطوع مقوماتها البسيطة في رسم الصورة المذهلة مثلما تفعلين أنت .
ضحكت ،  لم أقل له أني فتاة تحاول محو وجهك أو حمله بحذر كي لا تجرح نفسها أو تكسره ، تحاول التخفف من نفسها على الورق ليس إلا  . 

لاتعدني  بأنني لن أذبل بالشتاء و بأن فيروز لن تصدق في أقوالها دائمًا .. أو أنها كانت ترى منامًا حزينًا  حينما غنت " يروح و ينساها و  تدبل بالشتي .. " ولاتقل  أنها لم تقصد أي شيء  . لا تقل أننا يوما ما سنسير في الطريق معا و سأدس يدي الباردتين في جيبك 
عدني  أنه و إن لم يحدث أي شيء أن تظل مثلما أنت تحب المطر و تفرح به كطفل صغير لا تعطه أبعاد ومعانيه  فيخدشك بل  تحبه وتفرح به و لا تكترث للتفاصيل كثيرًا ولا تحاول أن تفهم أسباب الأشياء بإصرار مثلما أفعل أنا . وتقول بصوت عال
"
شوية المطرة دول حلوين أوووي يارب "
 
فيصل صوتك للسماء و روحك صافية يغسلها البكاء و يمنحها سرورها المطر .. ويدفع السحاب للسير إلى الضفة الأخرى لنقول  حقيقة لا مجاز سقانا الله معًا .







الجمعة، 3 نوفمبر 2017

أحلام تشرين

تقف مريم على أطراف أصابعها وهي تبحث عن مطربان البهار هذا أو ذاك في المطبخ . طالما سخرت من قصر قامتها ولكني سرًا بيني و بين نفسي  كنت أحب كيف أستطيع أن أشعر بنبض قلبها حينما أميل برأسي فأصل لموضع القلب وهي تقص لي قصة جديدة في كل ليلة. لا أبوح لها بهذا ، بل أسخر منها و أعود إلى مكاني بعد أن تفرغ من الحكاية .
كنت لم أزل في السادسة من عمري  ، صبي صغير يتعرف على الأشياء عبر مريم رغم أنها تكبره بقليل .
 يعرف الأصدقاء أني  سيء الذاكرة . و لا أستطيع اكمال جملة واحدة سليمة حينما أتحدث إلى  فتاة . لكن مريم ليست كالأخريات كنت أشعر بها و هي تُعجن بقلبي ، ييبس القلب أحيانًا  فأبحث عنها لتفتته ثم تنثره صباحًا للطير  فيخالطني تراب الأرض ، ثم تجمعني الطيور في حواصلها و تطلقني بدايات للغناء أول الضحى .
. مريم  تصير جزء من هذا الدم الذي يجري في داخلي أليست الروح من تدفعه للجريان مالفرق إذًا ؟ 


(2) 

تقول جدتي أن الأحلام تتلبس بنا أول تشرين الثاني  لأّنّه فصل الحرث ، يقلب الأهالي الأراضي فتتقلب معها أرواحهم و تزورهم الأحلام و كأنما المحصول ينبت في رأس صاحب الأرض قبل أن يقبل موعده
أقول لها : كلا يا جدتي أنه سعي الإنسان نحو مقصده يقض مضجعه ، و يجدد سريرته ليس إلا. ولهذا يجد كل شيء في المنام و كأنما تولد الاشياء من جديد . لكنها تصر و تستند إلى أن قاموس اللغة العربية يشير للبقاع التي يغسلها ماء المطر بالتعبير التالي " مضاجع المطر" أي مساقطه . ولهذا بعد الحرث بالذات و في بدايات المطر تثور الأحلام علينا . ألا تبدو لك الصورة الآن كاملة يا ولد ؟ 
فأسكت. معها حق إن كان المطر يضجع و نحن كذلك فتصحو الأرض و تحدث أصحابها بطريقتها

(3 ) 

حينما التقينا في المرة الأخيرة كانت تضحك مثلما عهدتها تزم شفتيها  . قلت لها أن عقد اللؤلؤ في فمك يجب أن يبصره الجميع اطلقي ضحكة كاملة . لا تزمي شفتيك  و أنت تضحكين . حسنًا أنا لم أقل شيء

(4) 

أحيانًا و دون أسباب مفهومة أو واضحة أصير خجولًا أكثر من اللازم فأعجز عن النظر مباشرة في عينيّ من يحدثني أيًا كان .
 أهو الخجل حقا؟ 
الارتياب ؟ أم انه الخوف من أن يفهمك الناس لأن " العيون نافذة الروح" ولأني أبصر مريم كل يوم و هي تشرع نوافذ الروح و ترسلها حرة لتجوب الأفق ثم معدمة و منهكة آخر الليل كأحلام تشرين

(4 ) 
 قبل أيام طرحت الشجرة خيراتها .
" يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، نور على نور ، يهدي الله لنوره من يشاء" . 

ترفض جدتي أن تقطف الزيتون  إلا بيديها لا تستخدم أي أداة أخرى ، لا حواشة ولا غيرها. الشجر يحس يجب ألا نقسو عليه فيقسو علينا ويحرمنا بركاته  . يغني الكل في موسم القطاف
" على دلعونا و على دلعونا زيتون بلادي أحسن ما يكونا على دلعونا و على دلعونا و يا ربي بارك شجر الزيتونا "  
تتسابق العجائزو  الصبايا  على تسلق  الشجر  و يمددن الأيادي مثلما كانت تمد الطيور مناقيرها إلي حينما تفتتني مريم و تنثرني  أول الضحى . تتفوق الختيارة على الصبية ولا عجب في هذا لأن هؤلاء يمتد جذرهن أعمق مما يمتد جذر الأخريات
يبدو المشهد من أعلى التلة  والأهالي يعتلون أشجارهم و كأن كل فلاح ينبثق من شجرته لتوه ، و حركة يديه وهو يجمع الزيتون  فيقطفه من الغصن القريب أو البعيد تذكرني بحركة الجنين في رحم أمه يضرب كل ناحية فيها و حينما يثقل ، أو تثقل الأحمال بالزيتون فجأة يسقط من الشجرة إنسان كامل . قوي و منتصب لا ضعيف ولا لين لكنه حديث الولادة
وحينما يفرغون من القطاف ،يقلمون الشجر ثم يحرقون الأغصان و يتركونها في الأرض محلها سمادًا للشجر . يبدو المشهد هذه المرة غريب و مروعًا .  يذكرني بالقيامة أو بالبداية التي لا تكتشف في نهاية المطاف أنك كنت مشدود و مشدوه فمخدوع بها وحسب . يذكرني بوجه مريم العذب . و الحقيقة و بالإنسان الذي تحترق دواخله ربما ليظل واقفًا.
(5 ) 

لا أصحو مبكرًا . لكن مريم تفعل . تحب الفجر،  تسبقه وتقف بباب الدار قبل أن يعلو صوت الآذان و ترقبه والضوء يشقه يشتته ثم يبيده  معًا.
 تقول : " يشبه الفجر نظرة حنان لا نهائي " .
لكني اليوم و ستأتي أول عصرة من زيتون هذا العام سأسبق مريم و الفجر أيضًا . قال مهند لنا ذات مرة حينما كان كل واحد منا يتحدث عما يرغب بالوصول إليه . أنه لا يريد شيئًا . يريد فقط أن يظل زيت الزيتون   قادر على لسع حلقه أي أن يظل و كأنه عُصر لتوه . ها هو ذا يلسع فينا الحلق و القلب ..فهلا أقبلت ؟ 

(6 ) 
أعتقد أن الكتابة فعل مجنون لأنه يجعلك تعيش حياة الآخرين . و تصفها و تحدق في

الأطراف التي قضمها أصحابها . أو ربما أكتب لأني حدقت ولا أحدق لأني أكتب . ما 

هذا الهراء الذي أقوله الآن ؟ في كل مره أكتب فيها أشعر بالتيه . في كل مرة لا أكتب  أشعر وكأن جبل أحد مخبوء في صدري .

(7)
 و الأهالي يشعلون النار في الأغصان قالت لي مريم  أنها رأت أننا . أنا وهي نقف على ارض مستويه ثم فجأة تتزلزل الأرض من تحتنا فأسقط أنا و تنجو هي  و حينما تحاول نجدتي تجد أني تحولت لشجرة .
 لقد انفجرت ضحكًا  : - شجرة يا مريم ؟ 
ولك شجرة

 - لماذا تضحك؟
 أجل شجرة و لقد وقعت في حيرة كبيرة وقتها ولم أعرف مالذي سأفعله . إن الشجرة الوحيدة التي تمنيت لها ان تصبح إنسان هي  الشجرة التي صرتها أنت
أتعرف مريم ألا اسم لي ؟  يبدو أني قلبت في الأرض كثيرًا هذا العام فقلت لمريم في المنام ما لا أقوله لها . 


 كانت النار المشتعلة قد هدأت و الدخان في طريقه للتلاشي و مريم تبتسم دون أن تزم شفتيها هذه المرة

السبت، 21 أكتوبر 2017

نافذة من باكستان

كنت أقف أمام البيت العتيق في حوارة  للمرة الثانية و القشعريرة تسري في جسدي . حوارة عالية جدًا تستطيع  أن تطل على كل فلسطين و أنت تقف بجبالها ،  شتاءً يغطيها الثلج  فتنازع رائحة الشتاء  رائحة البرية على صدور الفلاحين لكن كليهما يصل  ممتزجًا بالآخر بطريقة سرية و غريبة .أنا لا أعرف لم أحب الاشياء العتيقة  بالذات ، حتى لفظ مفردة "عتيقة " أحبه ، أحب صداه في داخلي و كيف أني  أستطيع خلال هذه المفردة أن أبصر البلاد كاملة و أن أشعر ألا فرق بين الأزلية و بيننا

تحتفظ الأشياء العتيقة بكل روح عبرت بها ، الفناجين المهترئة تعرف الكلام الذي حبسته شفاه من تناولها، الكتب المصفرة أوراقها تحفظ رجفة الأيادي وشهقة الشغف  ،الأغنيات القديمة تخبئ الدموع في آخر الليل بحوزتها ، و حتى الأصدقاء القدامى يعرفون مربط فرسك  و ينجدونك في وحدتك أو حينما يخذلك الحب ، دون أن تبوح لهم بشيء .

وحينما تقترب من شيء عتيق تستطيع أن تسمع حكاياه في داخلك أو صوت ما يقول لك ..
"ياه أيها المسكين لم تفهم بعد ؟ "
فتتمسك بها لتدرك الحقيقة ربما أو لتعرف السر  الذي أدركه من سبقوك .

في الطريق  كنت أبحث عن سيارة تقلني ، ألتفت في الشارع يمينًا و يسارًا ، ثم أسير مسافة على أقدامي - أحب المشي لأنه يعيق الذاكرة - أمشي و أبصر الاشياء أرجعها لأصلها أحدّثها فترد أو لا تفعل - أمشي حتى تذوب أصابع قدمي أحيانًا و لا أشعر بهذا إلا حينما أصحو صباحًا  فأحس بها و كأنما سرب من النمل يتحرك داخلها

وجدت واحدة أخيرًا فركبت ، 
"The location please " 
قال السائق بلكنة قدرت من خلالها انه باكستاني أو هندي -يشترك جزء من الهنود و الباكستانيون في اللغة الأردية وهي لغة عتيقة - قلت له أني بعثت له بالموقع الذي أرغب بالوصول إليه ، وحينما عرف أني أتحدث الإنجليزية و أفهمها  ظل يتحدث طول الطريق
قال

 أنا أحب ذاك الشيء الرقيق الذي يجيء بعد المعاناة و التعب ، بل أحب أن أتعب ، أحب زوجتي كثيرًا، أنا هنا وحيد لا أهل ،لا أصدقاء ، عمل طوال الليل و النهار ولكني أستطيع أن أقف كل نهار من جديد

في بداية زواجي كنت أسير أنا و زوجتي  فهطل المطر فجأةً ثم أخذت زوجتي تبكي ، لقد تلطخنا بالطين معًا لا أستطيع أن أنسى وجهها ، قصدنا إحدى النُزل القريبة و نمنا و نحن متعبان  من السير في الطين . و حينما صحوت صباحًا كان صوت المطر لم يزل يدق الأسقف و وجوه الطرقات .
هممت إلى النافذة لألقي نظرة ، لم يكن ثمة أمطار ، كانت النُزل تطل على منخفض تجمعت فيه مياه المطر و صوت جريان الماء سبب لي اللبس كان المنظر بديعا ، أرض خضراء واسعه و ماء يجري ، كأن الطين لم يلطخنا البارحة .. ظللت واقفًا أمام النافذة و ما أدهشني أنا الماء كان نقيا
"what is surprising  me the water was very clean ! " 
شد على المقود بيديه ثم أردف : إنني  أحيا على هذا المشهد لليوم ، أحمله معي أنى ذهبت ، أستقوي به

لقد تركته و نزلت ولكن بغير القلب الذي صادفته به . يا الله لا فرق بين الانبياء و هؤلاء الذين يستطيعون قص القصص .

و أنا أجول ببصري  حول الدار العتيقة أحزنني أن إحدى الأشجار قُطِع جزء كبير من أغصانها ، أحب هذه الشجرة بالذات .. لماذا ؟  

"يكبر الكلام في داخلنا كالأشجار " 
  و نجزّه نحن ، نجزّه كل مرة فلماذا كل هذا الحزن الآن ؟ 
لأني أفتقدك ؟ 
لأن نافذة كبيرة من باكستان أٌشرِعت على مصرعيها لأجلي فعدت نقية ، لينة، أتشكل وفق ما يحدث من جديد  يستطيع الحزن أن يعبث بي كما يشاء ؟ 

لست أعرف .



 أحدّثك عن الأشجار كثيرًا ..، أعرف ولكني لا أستطيع أن أتوقف عن هذا ،أنا فتاة القرية أرجع في الأصل لقرية تتبع قضاء غزة تسمى إسدود .قال جدي مرة أن وقوفًا على تلالها كان يكفيه ليبصر البحر على يمينه ويلمس بسبابته التقاء الماء بالسماء و امتداد الكروم  و  الحقول على الجانب الآخر و رؤوس الصبايا عن كثب بين السنابل وهن يقمن بالحصاد كأنهن سرب طير يعلو يحط

أنا فتاة القرية أميل للشجر ، و يخيّل إلى حينما أمدد جسدي المتهالك تحت إحداهن أن 
الشجرة تقترب مني ، أصير جزء من تربتها و لأني فتاة العناق السيئة ، تنحني هي لتنتزع روحي و ترفعها مع الأغصان ، فتُسمعها ما تقول السماء و تردها إلي .   صدري معجون برائحة السنابل و عبق البرية و أطرافي لا تأبه كثيرًا بوجعها بل تكمل الطريق ، تكلمه دومًا  مثلما تجز أنت الكلام  ومثلما أظل أشد حبل وصلك رغم أنه قاس و كبير يجرح يداي لكني لا أتركه  فأرجع إلى نفسي بقامة معلوله و قلب خاو و روح بلا  وجهة.

الجمعة، 29 سبتمبر 2017

شاي بالحليب



(1) 

قبل أيام في أول النهار سألتني شقيقتي الصغرى و هي تعمل على واجب اللغة العربية 
" ما معنى كلمة كاهل "؟ 
أخذت أفكر في معنى كلمة "كاهل "التي طالما سمعتها و نطقت بها  و لم أعرف .. أجل ببساطة لا أعرف ، إننا نقولها حينما نتعب "أُثقل كاهلي " ، و هذا ما قلته لها 
أرأيت كيف نردد الأشياء وفق إحساسنا اتجاهها لا وفق ما تعنيه بالضبط؟


 تبدو " أثقل كاهلي " أقدر على التعبير   من غيرها ، فنقولها .أخذني هذا لوجهك الذي أحمله في داخلي دون أن أفهم السبب ، أشعر أحيانًا و أنا أتأمله أنه وجه فلاح جاء من زمن عتيق  و سكنك .
لأني بطبيعتي أحب الأرض و الشجر ؟
 فأتوجع أكثر ، أمد يدي أعلى الصورة حيث الجبين ثم أنزل بها للكتف فأسقط عبثًا كثمرة مرت بكل مراحل الحياة ثم ماتت ،تحللت، و رجعت سمادًا طيبًا  ليظل الشجر و  وجهك كما هو

(2)

حينما أحاول ان أتخلص منك ، يحضُر أمامي مشهد لقرية في مكان مجهول  ،فيه شجرة واحدة و عملاقة استغرقت خمس سنوات فقط حتى تكبر ثم فجأة حينما رغب أهل الدار باقتلاعها كانت جذورها قد وصلت لديارهم فتركوها ، أنت الفلاح  و الشجرة و أنا الدار ثلاث أشياء ثابتة في محلها. و بعيدة عن بعضها .موت إحداها يعني موت البقية

(3)
من كثرة مجيئك و رواحك حرثت قلبي أكثر من اللازم إنك تضع فيه البذور الآن لكنها تسقط عميقًا ، أتراها تصل للضوء؟ 

(4)
حرارتي مرتفعة وحلقي يؤلمني كأنما فيه مجموعة من الحصى ، فأتمنى لو أني أرجع طفلة مع أني كنت أشعر أن أبي قادرٌ على تمزيقي بصوته حينما يصرخ ،أما الآن و قد كبرت فأنا التي أمزقه في داخلي كل يوم
قال لي صديق أخذ لي صورًا لريف غزة في نيسان حيث الحنون يغني في البلاد  قبل ثلاث سنوات أن مذاق الشاي بالحليب طيب وأني يجب أن أجربه ، في إحدى الصور كان يقف على التلة و يمد يده بالـ دحنون و يبتسم و الضياء يمر عبره كشيء أبدي لن ينقضي
شربت الشاي بالحليب البارحة يا صديقي ، وددت لو أنك لم تزل هنا لأقول لك أن رائحته تشبه رائحة أمي حينما كنت في الصف الثالث الابتدائي . امرأة في  آخر العشرين وجهها متورد و شعرها القصير الأسود يبلله العرق تحمل على يدها توأمين  مرة واحدة و الحليب الذي تحمله في ثديها يتدفق  فينسكب كلما بكى أحدهم و  يبلل ثيابها ، تبكي من التعب لأنها لا تنام ليلًا ولا نهارًا لا أبكي أنا ، إنما  أحدق  في أمي وهي تتحول لنهر دفعة واحدة  وحينما أقترب منها لأحاول حمل أحد التوأمين أو اقترب من فنجان  الشاي بالحليب أرجع للصورة ذاتها "  إنها تتحول لنهر دفعةً احدة "  !


(5) 
أتنازل عن الكلمات ،لا تعنيني رغم أني أحب الكتابة و القراءة و سرد القصص و الحكايا ، إلا أني حينما لا تعرف أنتَ كيف تقولها ، أزهد فيها . لكني لا أتنازل عن العناق ابدًا . وكلمة كاهل تأتي في قاموس اللغة العربية تسمية لمنطقة أسفل الرقبة و أعلى الظهر في جسد الإنسان . هناك حيث يتعب فيهلك  و يولد عناق و يموت آخر

(6 ) 
 أفتقدك ، و يخيل إلي في آخر الليل أني بئر جافة ، و أنك عابر سبيل  عطش تبصر البئر ثم تنزل الدلاء فيه و  تتذكر  و أنت تستعيدها خاوية أنك من حفر البئر ثم اختار عنا السفر  فأبكي ،و دون قصد مني  تتفجر في البئر عين لتشرب .

" وياريت جسمي جسر يمي و قطعن عنه "